رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كلنا فى الفقر سواء

«القمة تتسع للجميع»، استوقفتنى هذه العبارة عندما سمعتها للمرة الأولى من الكاتب الصديق سعيد شعيب قبل أشهر معدودة من نهاية القرن العشرين، وكنا نعد لإصدار صحيفة إقليمية باسم «القمة».. كان اختيار سعيد هذه العبارة كشعار مكمل لعنوانها بعد مناقشة لم تستمر طويلًا، إذ كان الاتفاق عليها سابقًا للتفكير فيها، خصوصًا مع اتفاقنا المسبق على أهمية فتح أبواب الجريدة لجميع الأفكار والتيارات، سياسية وثقافية واجتماعية ورياضية دون انحياز لطرف على حساب الآخر، وأن نحجز لنا بالطبع مكانًا وسط عدد كبير من الصحف القومية والحزبية والخاصة التى كانت تصدر وقتها.. كان سعيد هو رئيس التحرير الذى انطلق فى اختياره لشعار الجريدة من عدة أفكار، أو منطلقات، أولها أن «القمة» التى هى الجريدة، رغم محليتها واستهدافها جمهورًا محدودًا هو قراء الصحف بحى المعادى الذى تنطلق منه، سوف تكون مساحة لجميع الأفكار والتيارات التى يمكن أن تصل درجة اختلافها مع بعضها البعض إلى الحد الأقصى، نحترم الجميع، ونقبل الحوار مع الجميع، فلا يخشى الاختلاف إلا جاهل أو أحمق أو منغلق الأفق أو متطرف، أو منتفع.. فى الاختلاف براح يتسع لكل التصورات والأفكار، بما فيها الأديان والمعتقدات الراسخة، فحتى هذه يمكن الاختلاف حولها ومعها وبداخلها، حتى هذه العبارة التى بدأت أو انتهيت بها، تقبل الاختلاف معها إلى الحد الأقصى، فإذا كان العرب القدماء هم من قالوا إن «الضِد يُظهرُ حُسنه الضدُّ»، فنحن أولى بأن تتسع آفاقنا لكل ضد، أن نتحاور معه، نحاول فهم مقاصده ومنطلقاته والوصول معه إلى مساحة من «التعايش»، فالدول والمجتمعات لا تُبنى على منوالٍ أو نسقٍ فكرى واحد، ولا وفق تصور واحد وحيد، لم يعد هناك من يأتيه الوحى من السماء، أو من لا ينطق عن الهوى.. كلنا فى البشرية سواء، وكلنا فى الفقر سواء، نخطئ ونصيب، نتعلم ونُعلم ونطلب العلم والمعرفة، ولهذا نختلف أحيانًا ونتفق أحيانًا، لكننا نعيش دائمًا معًا، وطالما كانت على الأرض حياة..

على أن ما لم أستطع استيعابه، ولا أجد له من أسباب منطقية وعاقلة، أننا بعد آلاف السنين من عمر حياة الإنسان على سطح «البسيطة»، ما زال هناك من يضيق صدره بكل مختلف، فيكرهه، ويرفض حتى التحاور معه، أو مجرد القبول بوجوده، وإن لم تتقاطع سبلهما، أو تتعارض مصالحهما، والحقيقة أننى على المستوى الشخصى، ربما لا يستوقفنى مثل هذا السلوك إذا جاء من العامة، أو من محترفى استنزاف الطاقة على مواقع ومنصات التواصل الاجتماعى، ممن يعانون فراغًا فى العقل والوقت، ويعيشون حالة من لا جدوى الوجود والتأثير، بينما تغلبنى الحيرة والدهشة والاستغراب، والقلق حين يكون ذلك هو سلوك أفراد ينتمون إلى الفئة التى أظنها مثقفة، تقرأ، وتعرف، وتفكر، وتتأمل فى رحلة الإنسان وعمر الوجود، فالمثقف فى تصورى هو شخص عاقل، يزن الكلام قبل النطق به، لا يكتب قبل أن يفكر، ولا يتحدث دون مرجعية، ودون مراجعة لما يقول به، و«العاقل ينظر فى القول لا فى قائله»، كما يذهب الأمير عبدالقادر الجزائرى، فإن كان ما يقول به حقًا وافقه وقبل به، وتفاعل معه، حتى وإن كان يخالف ما يقول به، أو يجافى ما استقر فى نفسه، فلا يذهب مع العامة فى استدرار تلك المقولة الممجوجة التى يرفعها كل مهزوز ضعيف الحجة فى وجه كل من يخالفه، فيبادر باتهامه بأنه مجرد باحث عن الشهرة «ده غاوى شهرة»، يخالف ما استقر حتى يعرفه الناس، ويسمعوا له، وكثيرًا ما قرأت هذه العبارة السمجة فى تعليقات العامة على ما يكتبه مثقفون ومفكرون، فلم أتوقف قدامها، ولم تشغلنى، فتلك طبيعة العامة وديدنهم فى كل زمان ومكان، وذلك ما جُلبوا عليه من تسليم واستسلام ورغبة فى ثبات الحال، أو ما يتثاقف البعض فيراه كنوع من الاستقرار، ولو كان ذلك الاستقرار مرادفًا للركود والتيبس والجمود.

العامة يحبون «الأنتخة» والسكينة، يميلون إليها ويألفونها ويطمئنون إليها، وترتاح نفوسهم فى نعيمها، فلا يستطيعون الحياة بغيرها، أو هو ما لخصه شاعر العرب أبوالطيب المتنبى قبل سنوات بعيدة فى بيته الشهير «ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله، وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم».. ولهذا يميلون إلى اعتبار أى مناقشة لما استقر فى نفوسهم من أفكار وتصورات مجرد بحث عن الشهرة، بينما الحقيقة أنه لا تقدم ولا حركة لأى مجتمع دون نقد لكل ما هو ثابت، ودون اختلاف وشك، وإعادة قراءة، دون مراجعة وبحث وتدقيق، وهو ما ظننت أنه من بديهيات الانتماء إلى الفئة القارئة أو المثقفة، وما يجعلنى أشعر بلا جدوى الكلام عندما أسمع أحد الكتاب أو الفنانين يعلق على أى نقد بأن كاتبه يبحث عن الشهرة بالحديث عن أخطاء «الرموز»، والتفتيش عنها، والسؤال عمن وراء هدم «رموزنا» والتقليل من منجزهم الكبير والمهم، وما شابه من عبارات أظنكم تعرفونها جيدًا، ولن يتوقف البعض عن تكرارها.. هؤلاء الذين يرون فى كل مشهور مقدس لا ينبغى المساس به ولو بمراجعة أفكاره وكتاباته، أو مجرد محاولة تنبيهه إلى خطأ وقع فيه.. ليكن إذن، نحن بالفعل نبحث عن الشهرة.. لمَ لا؟! فما غاية من يكتب أو يفكر أو يبحث عن المعرفة، غير أن تنتشر أفكاره وتصوراته، يتداولها الجميع أو البعض أو أيًا كان.. يراجعونها ويدحضونها، يتفقون معها ويبنون عليها، أو يختلفون مع منطلقاتها؟! لماذا نكتب إن لم يصل ما نكتبه إلى عموم الناس، مثقفين ومفكرين وأنصاف مثقفين وعامة؟!

باختصار، ومن الآخر، نحن بحاجة ماسة إلى كل مراجعة لكل ما استقر فى يقين العامة والمثقفين على حد سواء.. فغالب الأمر أن أحدًا لن يسلم من الاتهام بأنه «غاوى شهرة».. لأننا، كما قلت لك قبل قليل، كلنا فى الفقر سواء.