د. علي الحفناوي ابن بطل تأميم قناة السويس يكتب لـ«الدستور»: أسرار لم تُنشر من قبل عن معركة مصر العظمى
![قناة السويس](images/no.jpg)
ربما لا يعرف كثيرون من الأجيال الجديدة أن قرار تأميم قناة السويس الذى أعلنه الرئيس جمال عبدالناصر يوم ٢٦ يوليو ١٩٥٦ من ميدان المنشية بالإسكندرية، قد أعده من الناحية القانونية وكتبه الدكتور مصطفى الحفناوى، الصحفى والقانونى الكبير.
وقد ارتبط «الحفناوى مبكرًا بقناة السويس، عندما سافر إلى باريس لإتمام دراسته العليا التى كان موضوعها قناة السويس ووضعها القانونى، وبالطبع كان لا بد أن يسافر إلى فرنسا، حيث إدارة الشركة وكل الأوراق والوثائق المتعلقة بها، وهناك اكتشف أن الشركة فى عقد تأسيسها عام ١٨٥٤ طبقًا لفرمان والى مصر محمد سعيد باشا إلى ديليسبس، هى «شركة مساهمة مصرية خالصة»، لكن هذه الوثائق اختفت تمامًا بالطبع.
بل إن د. الحفناوى اكتشف وثائق تثبت تخطيط الشركة لعدم تسليم القناة للمصريين بعد انتهاء الامتياز فى عام ١٩٦٨ بدعوى أن القناة دولية ويجب ألا تترك للمصريين، لهذا كان طبيعيًا أن يجلس د. الحفناوى إلى جمال عبدالناصر بعد أقل من شهر على ثورة ٢٣ يوليو وبالتحديد فى أغسطس ١٩٥٢، حيث دار بينهما نقاش طويل حول القناة.
وظلت فكرة «التأميم» تدور فى عقل عبدالناصر حتى اختمرت تمامًا، وفى ٢٤ يوليو ٥٦ استقبل الرئيس د. الحفناوى وصارحه بأنه قرر تأميم القناة وطلب منه الصياغة النهائية للقرار، وهو ما فعله.
الآن، وبعد هذه السنوات، وفى ذكرى التأميم، يكتب د. على الحفناوى، نجل د. مصطفى الحفناوى، عن قصة القناة وقرار التأميم وكيف أصبحت «شركة مساهمة مصرية».
«هل كان تأميم قناة السويس ضروريًا؟».. يثير هذا السؤال خلافًا نظريًّا منذ زمن طويل. ونعلم مقولة: «ولماذا كان التعجُّل فى تأميم قناة السويس فى حين كان يكفينا الانتظار حتى ١٩٦٨ لاستعادة القناة».. وبالطبع، نجد أن أصحاب تلك المقولة ممن يعادون عبدالناصر، أو على الأقل ممن يَحنُّون إلى «العصر الملكى»، حتى إن لم يكونوا قد عاصروه. وعلى الجانب الآخر، نجد أن بعض الذين يردون على تلك المقولة من «الناصريين» لا يعتمدون فى ردهم إلا على إعجابهم الشديد بشخص عبدالناصر، وإن لم يُعاصروه، فى محاولة لرفع الظلم عن شخص، دون الاستناد إلى الموضوعية العلمية بالحجج والأسانيد.. فاسمحوا لى ببعض الموضوعية فى عرض القضية، بعيدًا عن مؤثرات العواطف السياسية وانتماءاتها. أولًا: قضية قناة السويس هى قضية مصر القومية منذ حفرها. والمطالبة باسترجاعها كان يُمثل مطلبًا وطنيًّا مصريًّا من قَبل الاحتلال البريطانى، أى قبل التأميم وقبل عبدالناصر بنحو ثمانين عامًا.
ولنتذكر الأحداث التالية:
■ ألغى الخديو إسماعيل استخدام السخرة وأمر باستعادة مساحات الأراضى التى كانت شركة القناة قد استحوذت عليها بناءً على نصوص فرمان الوالى محمد سعيد، الذى كان ينقصه الدقة. وقد أدى هذا الإلغاء إلى خلافٍ كبيرٍ مع الشركة عام ١٨٦٤، وتوقّفت أعمال الحفر نحو عام. ثم تمّ تحويل القضية إلى التحكيم، واضطر إسماعيل تحت ضغط السلطان العثمانى إلى قبول حُكم «نابليون الثالث» الذى عُيِّن مُحكِّمًا فى هذا النزاع، رغم كون زوجته «أوجينى» على صلة قرابة بفرديناند ديليسبس رئيس الشركة حينئذ؛ ففرض على مصر سداد تعويض للشركة قدره ٨٤ مليون فرنك بسبب إلغاء السخرة، و٣٥ مليونًا مقابل استعادة أراضٍ لم تكن من حق الشركة. فبدأ بهذا المبلغ عصر الديون الضخمة بالفوائد المركّبة التى تراكمت على مصر.
■ تحمّلت الخزانة المصرية مبلغًا ضخمًا آخر قدره يزيد على ٨٨ مليون فرنك مقابل شراء ٤٤٪ من أسهم شركة قناة السويس التى عجز ديليسبس عن تسويقها، وهذا من أجل أن يستمر المشروع وأن تتملك مصر حصةً غالبةً فى الشركة «بالإضافة إلى ١٥٪ من الأرباح التى قررتها مواثيق تأسيس الشركة».
■ كذلك اضطرت مصر لسداد نحو ٤٠ مليونًا أخرى لسداد قيمة مشتريات متنوعة من أراضٍ ومخازن وآلات، ما أدى لتحمُّل مصر ما يزيد على ٢١٢ مليون فرنك نقدًا فى مشروع حفر قناة السويس، الذى كانت تكلفته التقديريّة ٢٠٠ مليون فقط، وقت إصدار فرمان عقد الامتياز، وارتفع إلى ٤٢٠ مليونًا، منها ١٢٠ مليونًا مصاريف إدارية ومرتبات لموظفى الشركة خلال فترة الحفر.
ومن تلك الأرقام الأوّليّة، يتّضح أن رائحة الفساد فى العقد وفى التنفيذ وفى قرارات التحكيم واضحة منذ البداية، وكان يمكنها أن تزيد كثيرًا لولا المشاعر الوطنية لدى الخديو إسماعيل وكرهه لتصرفات ديليسبس. ولنتذكر قول إسماعيل: «أريد القناة لمصر ولا أريد مصر للقناة».
وبعد أن كانت بريطانيا معترضةً بشدة على مشروع حفر قناة السويس، خوفًا من سيطرة فرنسا على طريق الهند، وجد رئيس وزرائها المدعو «بنيامين ديزرائيلى» بمعاونة صديقه «روتشيلد» ثغرةً ينفذ منها إلى قلب مصر وقلب قناة السويس. فلم يكن ديزرائيلى سعيدًا بعدم مساهمة إنجلترا فى ملكية أسهم قناة السويس، وظل مع أصدقائه من عائلة روتشيلد يتطلّعون للفرصة التى ستسمح لإنجلترا امتلاك أسهم القناة، كخطوة لامتلاكها مصر كمستعمرة بريطانية. وظل ديزرائيلى يتحرك فى الكواليس لخلق الظرف الملائم لتحقيق أغراضه. وتحددت الخطة لوضع الخديو إسماعيل فى مأزقٍ عن طريق تضخيم الديون المصرية باحتساب فوائد بنكية مركّبة ضخمة لا تستطيع مصر سدادها لفك أزمتها المالية. وقام صديقه مدير البنك البريطانى المستر «هنرى أوبنهايم» بترتيب الأزمة وإدارتها حتى لا يكون للخديو مخرج إلا ببيع أسهم قناة السويس. وقد كان..! فتمّ البيع سنة ١٨٧٥ فى الخفاء بأموال اقترضها ديزرائيلى من صديقه «ليونيل روتشيلد» بما قيمته فى هذا الوقت أربعة ملايين جنيه إسترلينى. ثم ذهب بنيامين ديزرائيلى إلى الملكة فيكتوريا قائلًا: «الموضوع قد حُلّ يا مولاتى، فهى لك الآن، مصر وقناتها»، وكان يقصد أنه أوجد لبريطانيا الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس. ويشرح دافيد لاندس فى كتابه «بنوك وباشوات» كيف تم إحكام الخناق البنكى على مصر حتى تقع فريسة للديون وللاستعمار.
قام ديزرائيلى بترتيب سياسة بريطانيا الخارجية للتخلص من الخديو إسماعيل، ووضع مصر تحت الوصاية المالية لبريطانيا، وتمّ تعيين وزراء مالية داخل الحكومة المصرية من الإنجليز والفرنسيين لإدارة «الديون»، وانتهت بعزل الخديو إسماعيل عن الحكم باتفاق بريطانى عثمانى سنة ١٨٧٨، وتعيين ابنه توفيق المتعاون مع الإنجليز، فقد تعلم وكبر فى إنجلترا. وبعد ذلك، وجه ديزرائيلى سياسة بريطانيا لإعداد خطة احتلال مصر فى ظل حاكم مصرى مطيع وسلطان عثمانى متعاون، ولكن العمر لم يسعفه لدخول مصر كما كان يحلم على رأس الجيش البريطانى، فتوفى عام ١٨٨١، قبل عامٍ واحدٍ من الاحتلال الفعلى.
وحتى ندرك أهمية مصر لبريطانيا، نذكر ما قاله اللورد كيورزون وزير خارجية بريطانيا عام ١٩٠٩: «إن قناة السويس هى العامل الحاسم لأىّ عمل أو تواجد بريطانى خارج حدودنا».
لعبت قناة السويس دورًا محوريًّا فى الإعداد لاحتلال مصر، كما لعبت دورًا أهم فى العملية العسكرية التى انتهت بالاحتلال. فعندما تصدى أحمد عرابى للغزو البريطانى فى معركة كفر الدوار «مايو ١٨٨٢»، وتراجعت القوات الإنجليزية، خشى عرابى أن تكون المحاولة الثانية عن طريق قناة السويس، فذهب إلى ديليسبس عارضًا فكرة ردم القناة، ولكن ديليسبس وعده بأنه لن يسمح بدخول الأسطول البريطانى قناة السويس. لكنه أخلف وعده، ودخل الأسطول ونزلت القوات البريطانية بالإسماعيلية وهزمت الجيش المصرى فى التل الكبير وبدأ الاحتلال الذى دام ٧٤ سنة يوم ١٣ سبتمبر عام ١٨٨٢ من قناة السويس.
من أحمد عرابى إلى مصطفى كامل إلى محمد فريد ثم ثورة ١٩١٩، قامت حركات التحرر الوطنى فى مصر للمطالبة بجلاء الإنجليز واستعادة قناة السويس المرتبطة عضويًّا بالاحتلال، خاصةً أنه قد ثبت طوال عقودٍ الدورُ الاستعمارىُّ الذى كانت تلعبه الشركة فى مصر. لذلك أصبحت القناة والاحتلال مرتبطين فى الوجدان الوطنى على مر السنين والعقود.
من الأحداث الجسام التى مرت بالتاريخ المصرى الحديث، أحداث عام ١٩١٠:
فى هذا العام، دفعت بريطانيا شركة قناة السويس، التى صارت تحت سيطرتها الكاملة، إلى المطالبة بمد عقد امتياز استغلال القناة لفترة أربعين سنة إضافية، لينتهى العقد فى ٢٠٠٨ بدلًا من ١٩٦٨. وكانت حجة الشركة فى هذا الطلب: أنه لتبرير التكاليف التى ستتحمّلها الشركة فى توسيع القناة وتعميقها، عارضةً على الحكومة المصرية أربعة ملايين من الجنيهات لإغرائها بالموافقة. ويكشف عبدالرحمن الرافعى فى كتاب «محمد فريد رمز التضحية والإخلاص»: «ظل المشروع فى طىّ الخفاء زهاء سنة، وكان فى عزم الوزارة إنفاذه بسرعة حتى لا يزعجها احتجاج الصحف الوطنية، ولكن محمد فريد تمكّن من الحصول على نسخة من المشروع فى أكتوبر ١٩٠٩، فبادر إلى نشرها فى جريدة اللواء، ثم قفّى على أثرها ببيان أسرار المشروع وأسبابه، ومبلغ الغبن الذى يصيب مصر من ورائه، وشرح ذلك فى سلسلة من مقالات مستفيضة، دلّت على سعة إلمامه بدقائق المسألة المصرية وملابساتها، من الوجهتين السياسية والمالية». وقد قاد محمد فريد والحزب الوطنى، الحملة ضد مشروع مد الامتياز، ونجحت الحملة فى إجبار الخديو عباس حلمى الثانى والحكومة، على إحالة المشروع إلى الجمعية العمومية «البرلمان» لاتخاذ ما تراه، قررت الجمعية تشكيل لجنة منها تعد تقريرًا بالموضوع، وعقدت جلستها العامة يوم ٤ أبريل ١٩١٠ لمناقشته.
كان الخديو عباس حلمى الثانى هو حاكم البلاد فى ظل الانتداب والحماية البريطانية، لكنه قبل بعرض قضية مد الامتياز على الجمعية العامة «مجلس النوّاب». وبالفعل قامت الحكومة التى كان يرأسها بطرس باشا غالى بعرض الموضوع على الجمعية. وفى ٧ أبريل واصلت الجمعية العمومية مناقشة المشروع، وجرى التصويت عليه نداءً بالاسم، وكانت النتيجة رفضه بالإجماع، ما عدا مرقص سميكة والوزراء، ووفقًا لقول «مصطفى الحفناوى»: «كان رفض المشروع عملًا رائعًا من أعمال الحزب الوطنى بزعامة محمد فريد». إلا أن هذا الموضوع قد انتهى نهاية دراميّة بمقتل بطرس باشا غالى على يد إبراهيم الوردانى.
وفى نفس تلك السنة، أصدر طلعت حرب كتابه «قناة السويس» شارحًا الخطورة الاقتصادية لمشروع مد الامتياز، وشارحًا الغبن المالى الذى تعانيه مصر من سيطرة الأجانب على قناة السويس من خلال الشركة، مُوضِّحًا أهمية استرجاعها «التأميم» فى أقرب وقت.
وهكذا ظلت أحداث ١٩١٠ عالقة بالأذهان، مُؤكِّدةً فرض بريطانيا سيطرتها على القناة وعلى مصر باستخدام شركة قناة السويس لتثبيت أقدام جنود الاحتلال.
اندلعت الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤، وزادت أهمية قناة السويس بصفتها مرفقًا ملاحيًّا تابعًا لبريطانيا خلال أحداثها العسكرية، خاصةً المعارك مع الجيش التركى. كما شهدت تلك الفترة اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة ثم وعد بلفور، وكلها تدور حول الدول المجاورة لمصر، مع تشبُّث بريطانيا المهول بمواقعها المصرية وقواتها على ضفاف قناة السويس. وكانت أحداث ثورة ١٩١٩ لنيل الاستقلال المصرى هى رد الفعل الوطنى على مواقف بريطانيا الاستعماريّة الغليظة. ومنذ ذلك الوقت حتى خروج جنود الاستعمار من مصر، مارست بريطانيا سياسة تجزئة الاستقلال فى جرعات مُخفّفة: فى ١٩٢٢ ثم فى ١٩٣٦ ثم فى ١٩٥٤.. ليس لسبب سوى رفض ترك موقع قناة السويس للمصريين.
خلال مراحل النضال الوطنى المصرى من أجل الاستقلال كانت مواقف الشركة متطابقةً مع مواقف المستعمر، لدرجة أنها وُصفت بالشركة الاستعماريّة من قبل خبراء دوليين درسوا ممارسات الشركة «كتاب السيدة الفرنسية الدكتورة كارولين بيكيه عن قناة السويس». وقد أظهرت المستندات التى وُجدت بأرشيف الشركة ما هو أكثر من ذلك، فمثلًا:
■ أظهرت المستندات أن الشركة لم تكن إلا ستارًا فى باريس يخفى السلطة الحقيقية التى تدير قناة السويس، وهذه السلطة هى حكومة إنجلترا، فوزارة الحرب البريطانية تهيمن على قسم الأشغال بالشركة، وهى التى تشرف على المشروعات الجديدة وتراقبها، والبحرية البريطانية هى التى تهيمن هيمنةً تامّةً على قسم الملاحة وإدارة التحرُّكات بقناة السويس، ولها فيه عيون بعضهم بدرجة أميرال، ووظائفهم الظاهرة وظائف إدارية بقسم الملاحة، أما الإدارة العامة للقناة فكانت تخضع للإشراف الأعلى للجنة متواضعة فى لندن، أسمتها حكومة إنجلترا اللجنة الاستشارية لقناة السويس، وكانت تضمُّ أعضاء مجلس إدارة الشركة الإنجليز من أمثال لورد «هانكى»، وسير «ألكسندر كادوجان» وآخرين. ولهذا، حرصت حكومة إنجلترا منذ احتلالها لمصر فى سنة ١٨٨٢ على احتكار السـيطرة التامة على قناة السويس، واستمر الحال كذلك حتى تأميم الشركة فى ١٩٥٦.
■ كذلك أظهرت المستندات أنه فى الحروب التى مرّت منذ افتتاح القناة، وخصوصًا فى الحربين العالميتين الأولى والثانية، ألقت بريطانيا بثقلها على قناة السويس، وسارت الحركة الملاحية لصالح حلفاء الغرب وحدهم، وحُرِّمت الملاحة تحريمًا تامًا عبر القناة، على ألمانيا وحلفائها، وذلك على الرغم من نصوص معاهدة القسطنطينية لسنة ١٨٨٨. وكان هذا من أسباب ترجيح كفة حلفاء الغرب.
■ وفى أوقات الـسلم بنت الحكومة البريطانية اقتصادها على أساس المزايا المستترة التى تحصل عليها بفضل سيطرتها على قناة السويس؛ مزايا سرية وغير ظاهرة تتمثّل في الغش فى قياس السفن التى تحمل بضائع لحساب إنجلترا من الجنوب إلى الشمال بالنسبة للمواد الخام، ومن الشمال إلى الجنوب بالنسبة للسلع المصنوعة فى إنجلترا. وكذلك فى ترتيب السفن فى القوافل، وتمييز السفن البريطانية والتى تحمل بضائع لحساب بريطانيا عن غيرها. وإذا ترجمت هذه المزايا المستترة إلى أرقام يتبين كيف استطاعت بريطانيا أن تغزو أسواق الشرق. ومعنى ذلك أنه إذا رفعت قبضة بريطانيا عن الحركة الملاحية فى قناة السويس، فإن اقتصاد إنجلترا يُعرّض للانهيار؛ إذ يتحتم عليها أن تبنى اقتصادها بدون الاعتماد على السيطرة الاستعماريّة. وهذه الحقيقة تأكّدت بالعديد من الوثائق والأرقام والإحصاءات فى ملفات شركة قناة السويس السرية التى وقعت تحت يد د. مصطفى الحفناوى بأرشيف الشركة فى باريس، ومتواجدة حتى الآن بأرشيف الشركة فى مدينة روبييه بفرنسا.
■ كانت أهم وثيقة وجدت بأرشيف الشركة، التى صارت فيما بعد السند القانونى لحق مصر فى تأميم القناة، هى ما يثبت أن عقد امتياز الشركة المطبوع- الذى تعاملها من خلاله حكومة مصر- كان مُزيّفًا مُلفّقًا منذ احتلال إنجلترا لمصر فى سنة ١٨٨٢، وأن العقد الأصلى الذى صدّق عليه السلطان العثمانى سنة ١٨٦٦، الذى نصّ على جنسية الشركة، وأنها شركة مساهمة مصرية تخضع للقوانين التى تصدر فى مصر، ولاختصاص القضاء المصرى، هذا العقد سُرق من مصر، وقد وقعت نسخته المسروقة فى يد د. الحفناوى عام ١٩٥٠، فانتزعها من الملف، وسلّمها لوزارة الخارجية فى القاهرة، وأُودعت بمحفوظات مجلس الوزراء.
ظهرت نوايا إدارة الشركة لما بعد انتهاء مدة الامتياز، من خلال واقعة يرويها د. الحفناوى فى مذكراته كما يلى:
«ذات صباح فى خريف سنة ١٩٥٠ كنت أتصفّح ملفًا، وكنت جالسًا بالحجرة الـصغيرة التى كنت أستعملها داخل شركة قناة السويس بباريس، فإذا برئيس الشركة (شارل رو) يدخل بغتةً باشًّا ومُحيّيًا، وأمسك بذراعى وقال: يا صديقى العزيز يا صديقي، وكرر التحية بضع مرات، وطلب منى مصاحبته إلى غرفته لنتحدث فى أمرٍ مهم. وغاص العجوز الماكر فى مقعده الوثير، وأنا جالس أمام مكتبه فى مقعد آخر وثير، وخلع منظاره لتنظيفه ثم وضعه على عينيه، ونظراته قد سلّطها خلسةً من تحت عدسات المنظار، وأحسست أنه يمعن النظر فى قسمات وجهى، ويراقب انفعالاتى، ونبضات قلبى ثم تكلّم فقال: أريد أن أقترح عليك مسألةً تدافع عنها فى كتابك، (والمقصود هو كتاب باللغة العربية عن إنجازات الشركة، كان شارل رو ينتظره من د. الحفناوى، فسمح له بالاطلاع على ملفات أرشيف الشركة فى باريس)، ولو فعلت فإنك ستصل فى شجاعتك الأدبية حد الذروة، وستكسب احترام العالم المتمدين، وسوف ينتشر كتابك، ويذيع صوتك، على نحو غير مسبوق. وسوف تفتح لنفسك باب مستقبل عريضًا ضخمًا، وتصبح من كبار الرجال فى العالم. اسمع يا صديقى وفكر معى وتأمّل.. إنك توافقنى- بطبيعة الحال- على أنه يستحيل ترك القناة بغير حراسة، وقوة مزوّدة بأحدث الأسلحة لدفع أىّ عدوان عليها، وثق أن روسيا السوفيتية لن تتردد فى احتلال بلادكم، واحتلال منطقة القناة بالذات، إذا جلت القوات البريطانية عن قناة السويس، والحل الأمثل هو حراسة القناة بقوات دولية تعينها الأمم المتحدة، وتتواجد فى منطقة قناة السويس تحت راية الأمم المتحدة، وهذا ينفى عنها لون الاحتلال الأجنبى الذى لا ترضونه؛ ذلك أن القناة ممر مائى يستعمل فى خدمة التجارة الدولية، وواجب الأمم المتحدة أن تحرس هذا الشريان وتدرأ عنه أىّ اعتداء».
وتوقّف شارل رو لحظات قبل أن ينتقل إلى الشق الثانى، وكانت نظراته الفاحصة لا تفارقنى، وكأنه يحاول أن يقرأ ما فى عقلى، وكنت قوى الأعصاب مسيطرًا على انفعالاتى تمامًا؛ حتى لا يرتاب فى أمرى. ولاحظت أن الكلمات كانت تنكسر بين شفتيه، وكان يتلعثم مع أنه مُحدِّثٌ بارع، وكاتب وأستاذ أكاديمى، ذلك لأنه كان يؤمن فى قرارة نفسه أنه غشاش ومخادع، وأنه كان يدعونى للخيانة بلا تورُّع ولا حياء. وقد استرسل وأمعن حينما عرض الشق الثانى من مشروعه، مُتحدِّثًا فـيه عن إدارة قناة السويس المستقبليّة، وفى ذلك قال بالحرف الواحد:
«بعد انتهاء امتياز الشركة فى ١٦ من نوفمبر سنة ١٩٦٨، بل يمكن أن يكون قبل انتهاء الامتياز، وباتفاق خاص يعقد مع شركتنا، ويُعوِّضها عن الأضرار، تقوم الأمم المتحدة بتعيين لجنة دولية تحل محل الشركة فى إدارة قناة السويس واستغلالها. وفى هذه اللجنة تمثل الدول العظمى، ويكون لمصر مقعد واحد، وعضو يمثلها فى اللجنة الدولية، وباعتبارك صاحب الاقتراح لن ترشح الحكومة المصرية سواك، وستكون أول من يجلس فى هذا الكرسى الدولى، وسوف يضفى عليك مكانة عالمية ضخمة. وكى أكون صريحًا معك إلى أقصى حد، أنبهك إلى أنك سوف تصادف متاعب- فى أول الأمر- من أهل بلدك، ولن يفهموك بسرعة. وأذكرك بأن المرحوم الدكتور أحمد ماهر قُتل وراح ضحية شجاعته فى الرأى، ولكنه خُلِّد فى التاريخ كمثلٍ فى الشجاعة الأدبية. وأنت الآخر يجب أن تكون شجاعًا، وتدافع عن رأيك، ولو خالفك أهل وطنك. والآن، أحب أن أعرف منك رأيك فى هذا المشروع، وهل تستطيع أن تتبناه؟
قلت له: سأعرضه بالطريقة التى أراها ملائمة، وأرجوك أن تترك لى فرصة التأمل والتفكير فيه.
وكان محدثى من قصر النظر بحيث شفع العرض المتقدم برشوةٍ مُقنّعةٍ عرضها بأسلوبٍ خبيث، ولكنه كان مكشوفًا. سكت دقائق، وهو مستمر فى ملاحظة انفعالاتى وقسمات وجهى ثم قال: هل أستطيع أن أعرف راتبك الشهرى فى السفارة المصرية؟ قلت: ولماذا؟ قال: إنهم يتهموننا فى مصر بأننا نبخل على المصريين بوظائف الشركة، والحقيقة أننا لم نُوفّق لذوى الكفاءات المؤهلين لوظائف الشركة التى لها مسئولياتها، وتتطلب تأهيلًا رفيع المستوى. وأنت يا صديقى فيك كل الصفات التى تؤهلك لمناصب الشركة، أنت قانونى، ومؤرخ، وكاتب، وعالم، ودبلوماسى، وتجيد الفرنسية والإنجليزية، وهذا أقصى ما نطلبه فى المرشحين لوظائف الشركة. ألديك مانع من أن تترك خدمة السلك السياسى، وتشتغل معنا؟ إننى أقدرك، وأعوانى يقولون إنك عاقل ومتزن، ويثنون عليك أطيب الثناء. فما رأيك؟
وأجبته بقولى: أرى أن تنتظر حتى يظهر كتابى، وتعرفنى معرفة تامة.
وفى مذكرات السيد «جورج جاك بيكو»، العضو المنتدب الفرنسى والرئيس الأخير للشركة، يوضح أنه قام منذ ١٩٤٩ بإنشاء مكتب لقناة السويس فى نيويورك ليكون نواة للهيئة الدولية التى قد تتسلم من الشركة حق إدارة قناة السويس إن لم تقم مصر بمد الامتياز بعد سنة ١٩٦٨. كما أوضح كيف قام بتعيين المسئولين عن هذا المكتب محددًا أسماءهم، ليكونوا ممن سيطبقون مستقبلًا سياسات وتوجهات الشركة، حتى وإن تحولت إلى هيئة تابعة للأمم المتحدة. فكانت هذه هى خطة التدويل المزمع تطبيقها بعد ١٩٦٨.
ثم كانت رسالة الدكتوراه فى القانون الدولى فى السوربون فى يونيو عام ١٩٥١ التى أثبتت ممارسات الشركة الاستعماريّة وحق مصر فى استرداد القناة، فاعترفت جهة علمية فرنسية بحق مصر فى استعادة قناة السويس. ويُذكر أن محمد صلاح الدين باشا، وزير خارجية مصر فى ذلك الوقت، قد كتب مقدمة للرسالة، أوضح فيها أنها تعبر عن الموقف الرسمى للحكومة المصرية «حكومة الوفد». ومن بعد تاريخ نشر هذه الرسالة، ونشر مخالفات الشركة المالية والإدارية على الملأ، بدأت الشركة فى إصدار تعليمات لكل إداراتها بالتوقف عن الصرف على أىّ تحسينات فى المجرى الملاحى أو فى صيانة المعدات الثقيلة مثل الكراكات وغيرها، حتى يأتى موعد انتهاء الامتياز، فإن لم تقبل مصر بالمد، فسيتم فرض نظام جديد دولى لإدارة القناة بعيدًا عن الحكومة المصرية.. وكانت كل تلك التعليمات والتوجيهات الإدارية قد عثر عليها بملفات الشركة فى مقرها بالقاهرة والإسماعيلية عند التأميم، وتم إيداعها بمحفوظات هيئة قناة السويس بعد اطلاع المخابرات العامة على محتواها.
الخلاصة: إن المطالبة باسترجاع «أو تأميم» مصر لقناة السويس كان مطلبًا وطنيًّا مصريًّا من قبل ١٩٥٢ بسنوات طويلة، وإن المستعمر البريطانى، وشركة القناة التى كان يهيمن عليها، كانا قد استعدا لتدويل القناة لإبعادها عن مصر. أما عبدالناصر، فلم يكن إلا الرئيس المصرى الذى تواجد فى ظرف تاريخى فى موقع السلطة لينفذ المطلب الوطنى المصرى الذى طالب به كل المصريين وأحزابهم منذ عقود طويلة.
الحكم التاريخى والموضوعى على الأحداث ليس به عواطف وانتماءات سياسية.