رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محاولات الإخوان هدم الدولة المصرية "4"

كان حلم جماعة الإخوان، عند تأسيسها عام 1928، إقامة الخلافة الإسلامية بعد أن سقطت في تركيا عام 1924، لأنها ترى أن الخلاقة ضرورة واقعية بالنسبة لها.. فمن وجهة نظرها، المسلمون لن يكونوا أقوياء ويحققون نهضة كبرى إلا إذا كانت هناك حكومة مركزية تحكم الأقطار الإسلامية، وهذا واجب شرعي وقائم على حديث نبوي، قامت عليه فكرة الجماعة وكل جماعات الإسلام السياسي، مع أنه ضعيف ومكذوب ولا سند له.. إذ ترى أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، شرح في الحديث المزعوم تفاصيل قيام الدولة الإسلامية، وقسمها إلى خمس مراحل، منذ عهد النبوة وحتى قيام الساعة، وهي مرحلة النبوة، ثم الخلافة الراشدة، ثم المُلك العضُوض، ثم المُلك الجبري، وأخيرًا خلافة على منهاج النبوة.. وبما أن سقوط الخلافة هو الذي أدى إلى ضعف العالم الإسلامي، فإنها ترى أن إعادة الخلافة هو الحل الأمثل لإعادة هيبة وقوة العالم الإسلامي، زاعمة أن مشكلة العالم الإسلامي سياسية وتكمن في أنظمة الحكم القائمة، والحل- من وجهة نظرها- هو إسقاط هذه الحكومات، وإقامة حكومة مركزية، وهي التي صنَّفت نفسها، منذ تأسيسها، بأنها جماعة غير قانونية لا تتفق مع أي قانون، ولا يمكن استيعابها ضمن أي قانون في مصر أو العالم.
ويذكر لنا عماد علي عبدالحافظ، أحد القيادات الشبابية السابقة في جماعة الإخوان، والمنشق عنها مؤخرًا، مثلًا يدعو إلى العجب، إذ يقول، إنه "لم تكن لمجموعات الإخوان من المحافظات المختلفة في السجون قيادة موحدة تقودهم داخل محبسهم، بل كان هناك عدة قيادات متنافرة وغير متوافقة، وكل جماعة تابعة لمحافظة تحكم نفسها بنفسها، ولا تقبل بقيادة من محافظة أخرى.. فكيف يمكن للجماعة أن تطبق فكرة الحكومة المركزية على العالم، وهي لم تستطع تطبيق ذلك على أفرادها؟".. والأكثر من ذلك، أن الجماعة كوَّنت التنظيم الدولي للإخوان ولها فروع في ستة وسبعين دولة، ولم تستطع، رغم كل هذه الفروع، أن تحكم قبضتها على أي دولة.. كل فرع يحكم نفسه بعيدًا عن التنظيم الدولي، ولم تستطع الجماعة أن تفرض سيطرتها على كل تلك الفروع، سياسيًا وتنظيميًا وماليًا، فكيف تستطيع أن تقيم حكومة مركزية تحكم من خلالها الدول الإسلامية الخاضعة لها؟.
بدأ المشروع الإخواني صداميًا مع العالم، لأنه قدَّم نفسه كتنظيم دولي يريد أن يحكم الدنيا، ولذلك سيخوض مواجهة مع النظام العالمي.. وحسن البنا، مؤسس الإخوان، كان يريد- وفق أدبياته- أن يستعيد المستعمرات القديمة التي كانت خاضعة للدولة الإسلامية، وهو ما لم يستقم، ولم يقبله النظام العالمي.. فالجماعة خلقت لنفسها هدفًا غير واقعي وغير مشروع، وصدامي بطبيعته مع الدولة والعالم والأقليات.. فهي تقدم نفسها على أنها البديل للنظام الحاكم لأنها تمثل الإسلام، وبالتالي لا تقبل بأي حزب معارض لها، لأنها تراه حزبًا معارضًا للإسلام، معتقدةً أنها الأصلح للحكم، وأنه لا يوجد بديل لها.. لذلك فهي لا تقبل بفكرة تداول السلطة لأنها ترى أن خروجها من السلطة هو محاربة لها لمنعها من إقامة الدولة الإسلامية.. ولعلنا نتذكر ما قاله قادة الإخوان، عندما وصلوا إلى حكم مصر، من أنهم سيحكمونها لخمسمائة سنة قادمة.. وفي سبيل ذلك، فإنه لا مفهوم لديهم لفكرة المواطنة، ولا يتعاملون مع الأقباط أو أصحاب الديانات الأخرى كشركاء في الوطن.. الدولة، وفق مفهومهم، تقوم على أساس عقائدي ديني، والنتيجة النهائية أن الجماعة تقدم نفسها منذ تأسيسها كمشروع صدامي مع الدولة والعالم والأقباط والقوى والأحزاب السياسية وكافة التيارات، فكيف يقبلهم كل هؤلاء كحكام أو شركاء في المواطنة؟.
لدى الجماعة قصور في فهم كيفية الوصول للحكم وبناء الدولة الحديثة.. يختلط لديها الدعوي بالديني بالسياسي، فهي تزعم أن التمكين ضروري للوصول للحكم، وبعد الوصول للحكم يمكن بناء الدولة المسلمة، لكن الصحيح أن التمكين يكون بصناعة الحضارة ونشر العلم والثقافة وبناء المجتمع الرائد والقوي.. "لو نظرنا لأفكار حسن البنا لوجدنا أنه انتهج العنف كخيار أساسي في فرض أفكاره ومعتقداته، ونص عليه بشكل صريح وواضح، وقال إنه في حالة عدم صلاحية الوسائل السلمية للوصول للسلطة، وفي حالة عدم استجابة الحكام لمطالب الإصلاح، سيتم استخدام القوة المادية إذا لزم الأمر".. وهذا الأمر تجسد في التنظيم الخاص والأجنحة المسلحة السرية، وقد ظهر ذلك فيما بعد فض اعتصام رابعة، وما نفذه الإخوان من تفجيرات وأعمال عنف وتخريب واغتيالات.
وحتى نعرف أسرار رحلة جماعة الإخوان في مصر مع الإرهاب، دعونا نرجع إلى ما كشفته دار الإفتاء المصرية في تقرير لها، يوم السادس عشر من مارس 2017، عن الجماعة ونشاطها ودورها ومستقبلها، من خلال حقائق عشر، يأتي على رأسها الجمود وتقديس الرموز وعدم الاعتراف بالأخطاء، والتعامل مع الواقع من خلال تجارب الماضي المؤلمة، وأخيرًا التكفير والصدام مع المجتمع، وهو ما أدى إلى ما وصلت إليه الجماعة الآن من تطرف وتكفير ورفض للآخر وصدام مع كل مكونات المجتمع.. ولاء أفراد الإخوان للجماعة مُقدَّم على ولائهم للإسلام، حيث تحوَّل الانتماء للجماعة ليكون الأصل والانتماء للإسلام هو الفرع، وإذا تعارضت مصلحة الجماعة مع مصلحة الإسلام قُدِّمت مصلحة الجماعة، وبالتالي تحوَّل هذا الانتماء إلى عصبية واقتتال من أجل بقاء هذه الجماعة، وتناسى هؤلاء أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، نهى عن هذه العصبية في قوله: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه".. وعلى الرغم من أن الفقهاء اختلفوا على فكرة الأخذ من السابقين في النواحي الفقهية؛ فإن الإخوان كان لهم رأي واحد في هذا الأمر، هو التعامل مع فكر السابقين على أنه "وحي"، وأنه "مقدس"، ولا يمكن بحال من الأحوال تجاوزه أو إحلال فكر جديد محله، وبالتالي هذا الفكر، الذي أُنتِج قبل عقود، لم يعجز فقط عن أن يدمج الجماعة في المجتمع، بل حولها إلى داء عُضال في المجتمع، ومُعوِّق للبناء والتقدم.
يرى الإخوان أن العمل الدعوي يُعد الخطوة الأولى نحو الجهاد العسكري، وبالتالي يُستخدم كوسيلة للتجنيد واستقطاب أفراد جدد ينضمون تحت لواء الجماعة، وقد بدأ العمل الدعوي قبل ثمانية عقود على المقاهي، وانتهى في العصر الحالي عبر منصات التواصل الاجتماعي وغيرها، وعليه يكون الغاية هو العمل العسكري، وهذا يبرر عنف الجماعة الموجود على الساحة حاليًا، ويبرر صدامها العسكري مع الدولة وكل مُخالف لهم.. ويتشبث الإخوان بالأفكار القديمة للأوائل وتقديسها ورفض كل ما هو جديد، انطلاقا من مقولة: "ما ترك الأول للآخر شيئًا، وليس في الإمكان أبدع مما كان"، كما أن قبولهم أفكار القدامى منهم دون مناقشة، أو تمييز بين الخطأ والصواب مما تحمله، أصابهم بالجمود في التفكير وألغى دور العقل في التأمل والتفكر والتجديد، وهذا يفسر صدامهم مع الواقع ورفضهم أي فكر جديد، على الرغم من مدح الإسلام للعقل، كما جاء في قوله تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" سورة يوسف- الآية الثانية.
لقد رفضت الجماعة التجديد لهذه الحقيقة، على الرغم من أن الفقه الإسلامي لم ينمُ ويتطور إلا بالتجديد الفقهي، وهذا يُحيلنا إلى قضية مهمة، وهي أن آفة فكر الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية، الذي ينهل من معين واحد، وإن اختلفت مشاربهم، هي الجمود.. وهذا الجمود قبل أن يكون عائقًا خارجيًا لهذه التيارات، فهو يشكل بالأساس عائقًا رئيسيًا في فكر هذه التنظيمات، ومن يحاول أن يخرج عن هذا الفكر يكون عقابه القتل، أو الطرد في أحسن الأحوال من صفوف التنظيم.. ثم يأتي الصدام مع كافة التيارات المُخالفة لهم، سواء أكانت إسلامية أو ليبرالية، وغياب أي وسيلة للحوار فيما بينهم.. وما حدث في عامهم الأول للحكم في مصر خير دليل على هذا الصدام.. هذا الصدام مع المجتمع ناتج لتعصب شديد لأفكارهم وانحيازهم لها، وهو ما يعد ظاهرة مرضية، كما يفسرها علماء النفس والاجتماع.. هذا التعصب يمثل نوعًا من العدوان والظلم يمارسه الشخص الذي يُقاتل من أجل الانتصار لنفسه أو حزبه أو جماعته أو حتى فكره القديم، الذي أصبح لا يتماشى مع التطور الحادث في المجتمع.
تشويه الحقائق، سمة يتسم بها الفكر المنحرف، فتعطيه القدرة على قلب المفاهيم وطمسها، وتقديم أدلة وبراهين غير كافية أو مناقضة للواقع، واستعمال الكلمات بمعانٍ مبهمة غير محددة أو بمعانٍ متقلبة ومختلفة، وهذا تمثَّل في عقلية الجماعة المتجمدة وسياستها.. إنهم يعتنقون المقولة الميكافيلية "الغاية تبرر الوسيلة"، وبالتالي ليس عيبًا أن تصدر فتاوى من قِبل جماعة الإخوان تُحرِّم أمرًا كانت تُحِله بالأمس، أو تُحِّرم أمرًا دأبت على فعله على مدار تاريخها.. ومن ثم، أخذوا يصدرون الفتاوى لقادتهم في صراعهم على السلطة، يبررون لهم سفك الدماء على أنه جهاد في سبيل الله، أو يكفرون الناس ليستحلوا دماءهم وأعراضهم.. هذه الازدواجية في التعامل مع الأمور جعلت العديد من أتباعهم ينفضون من حولهم، ليفقد الإخوان ظهيرًا شعبيًا، كانوا يحققون من خلاله نجاحات في صراعهم السياسي في الماضي.
دأبت الجماعة على الانغلاق على النفس، ورفض أي فكر مخالف، حتى لو كان صوابًا، ما دام لم يخرج من بين صفوفهم.. تستخدمه وسيلة دفاعية عن النفس حتى تبقى بعيدة عن البناء الحضاري، في الوقت نفسه يُغذي لديها فكرة الاضطهاد والعزلة، فيبرر لها احتماءها بالقوى الخارجية.. وقد استغرق الإخوان في أفكارهم المنغلقة في ظل العالم المفتوح، وهذا جعل الجماعة، لسنوات كثيرة، بمعزل عن أي تطور فكري.. فهي ترفض بالأساس فكرة التطور، وهذا ما فسر فشل الجماعة، في عامها الأول في حكم مصر، في التواصل مع أي فكر، سواء كان داخليًا أو خارجيًا وبناء علاقات دولية ناجحة، على الرغم من نجاح الدولة المصرية بعد الثلاثين من يونيو في بناء علاقات دولية ناجحة، تعاملت فيها الدولة مع الآخر بمبدأ الندية والقوة.. وكان من نتائج غياب فكرة النقد الذاتي، التي حولت الجماعة إلى أفكار متجمدة غير قابلة للتطوير، تقديس رموز الجماعة الذي حال بين منتسبيها وبين التجديد، فبات فكر الجماعة متخلفًا بعقود عن الواقع، وبالتالي، ومع أول صدام للجماعة مع الواقع، تحولت إلى العنف ضد المجتمع.. ولم يفلح توظيفها للأعمال الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية في خدمة هدفها السياسي، وهذا الأمر كان حاضرًا بشدة في المشهد الانتخابي، بعد أن تكشَّف فشلها الذريع في إدارة الملفات الحيوية للدولة، فكان وقع الصدمة على المواطن مؤلمًا وشديدًا.. 
■■ وأخيرًا..
فإن غياب فكرة الحوار لدى الجماعة مع الآخر والتسامح معه ولَّد فيما بعد فكرة التكفير داخل صفوفها، وأسس للعنف وظهور محاولات الاغتيالات لكل من يخالفها، حتى ولو في الرأي.. وأخذوا ينظرون إلى مجتمعاتنا على أنها مجتمعات كافرة، حيث يقول أحدهم، ويسمى أبوأسامة الأنصاري، المُكنَّى بـ"سيف الدولة"، في بحثه عن وجوب الهجرة من ديار الكفر إلى دولة الإسلام "إن بلاد المسلمين اليوم ليست ديار إسلام، بل هي ديار كفر.. وتَقَصُّد وتَتَبُّع حكامها المرتدِّين وجندهم بالقتال والجهاد واجب شرعي حتى يحكم دين الله، حيث إن الحرب مع هؤلاء الطواغيت جهاد لا بد منه شرعًا"، والمقصود بدولة الإسلام هي ما تمثلهم وتمثل أفكارهم المنحرفة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.