صابر رشدي: أنشر ما يواجه أدوات النقد ويجد استحسان القارئ
صدر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب نصوص "كي أحتفظ بكفي دافئة" للقاص صابر رشدي الذي يعد الكتاب الثالث في مسيرته الإبداعية بعد "شخص حزين يستطيع الضحك" و"الرجل القادم من الجنة".
وفي كتابه الأخير:"كي أحتفظ بكفي دافئة" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب انحاز صابر رشدي للانعكاس الجمالي للحكاية، مضفورًا بحرية الخيال التي يعالج بها نصوصه، ليبرز التواصل بين الواقعي والفانتازي على نحو فريد، وبصياغات موفقة دائمًا، تعمل على تجديد لغة السرد، وحقنه بلغة شعرية لامعة، ومتقنة، ومن خلال الإحكام الفني العالي، حتى لو كان النص يقوم على العادي والزائل واليومي، أو وهو يواجه عوالم قدرية، ومستغلقة أحيانًا، فهو يلجأ إلى الإجادة والصقل، واعتصار كل التقنيات الفنية المتاحة، لتصل أعماله إلى هذا المستوى الذي عرفناه عنه، دون انشغال بما يجري على الساحة من ضجيج وزحام.
وقال صابر رشدي، لـ"الدستور":"هذا الكتاب هو خلاصة تجربة ونتيجة عمل دءوب، ومتواصل على كتابة القصة القصيرة بأنواعها، هذا الجنس الأدبي، شديد الحساسية، ودائم التطور، فالكتابة والتجريب، فعل يومي في عالمي، كي يحتفظ بكفه دافئة، لكن لا أدفع إلى النشر سوى تلك النصوص، التي تصمد في وجه أدوات النقد، وتجد استحسانًا لدى القارئ الذي يتابع أعمالي.
"إشارات"
الطعام كان شهيًا وأنا أمضغه ببطء، شاردًا كعادتي وراء حكايات متصارعة، تدور في ذهني، وتلغي كل المرئيات حولي. مع ذلك، لمحته وهو يلج المكان مترددًا، حذرًا ثم وهو يجلس بهدوء إلى إحدى الموائد طنين الأفكار يشاغلني ويطغى على صوت الموسيقى المتصاعد كأزيز جنادب لا تعرف التوقف.
كنت وحيدًا متروكًا في عزلتي، أحاول بصعوبة الانتهاء من طعامي حين بدأت معركة صامتة في التشكل، في الركن الذي انتهى إليه الرجل، ساقطًا على كرسيه، كان يعتذر لكائن خفي، كأنما يسند عليه نظرته حتى يتفرغ للحياة. حضر أحد العاملين، وقام بجذبه، محاولًا سحبه إلى الخارج، لكنه لم يستطع.
- جائع!
قال هامسًا، متحرجًا.
كان يقارب الانهيار، ويده ترتجف بشدة.
نهضت، سرت إلى هناك.
- دعه.
قلت وأنا أخلصه من يدي العامل. ثم دعوته إلى مائدتي.
- اطلب ما تشاء.
مسح المكان بنظرة سريعة.
- أمامي مايكفيني. قال.
في هذه الأثناء، حضر مدير المطعم، قدم إلى اعتذارًا رتيبًا، راجيًا السماح له بطرده.
رفضت بشدة.
- احضر له طعامًا مماثلًا.
أمام إصراري. انصرف حانقًا، كاظمًا غيظه بصعوية.
تعمدت الجلوس مع الرجل حتى ينهي طعامه. دون أن يضايقه أحد..
بعد عدة سنوات، فوجئت به، جالسًا إلى جواري، في طائرة متجهة إلى عاصمة كبرى. وجدتني أتطلع إلى برجوازي صغير، يتحدث بلكنة أرستقراطية معجونة بعديد من اللغات، أخذت أصغي إليه وهو يتذكر كل شيء، بملامح مظللة بمعان مربكة، لا أدري أين تسربت تلك الغيوم، ونظرات التألم التي كانت حبيسة لفتاته السابقة.
خاطبني.
- تجرأت على اقتحام المطعم عندما رأيتك بالداخل. كنت أعرف أنك ستنهي المشكلة وتدعوني إلى مائدتك.
صمت قليلا، وهو ينظر إلي كأنه يستعيد ملامحي، ثم أضاف.
- غدًا ينتظرك حظ طيب.
في صالة الخروج، وبعد أن هبطنا من الطائرة، أومأ لي بابتسامة غامضة قبل أن يعبر البوابة الكبرى ويختفي في زحام العالم.