الروائي علي حسن يكتب: 30 يونيو 2013 ثورة عظيمة لشعب يعرف تاريخه ورسالته
يوم الأحد 30 يونيو 2013، كنت في ميدان التحرير، مع مئات الآلاف من المتظاهرين ضد حكم المرشد. تركت بيتي بعد أن ودعت زوجتي وأولادي. خرجت نحو التحرير في العاشرة صباحًا، كي أشارك في إماطة الأذى عن تاريخ مصر، ثقافتها، وسطيتها، حضارتها الخالدة، لنعيد البهاء إلى وجه مصر، نطهره من دنس أصابه، من تقزم متعمد، كي يلبسوها عباءة الإخوان، ومصر العظيمة أكبر من أي حزب، ومن أي جماعة، مصر بشعبها وتاريخها وحضارتها أمة في حجم مجرة!
هتفنا جميعًا، ملايين من البشر: "يسقط الإخوان.. يسقط حكم المرشد".
أربع سنوات بين عامي 2009-2013 قضيتها في إيران، حيث أعمل خبيرًا دوليًا في مجال التنقيب عن البترول. كنت أعمل شهرًا، وأحصل على إجازة شهرًا. أثناء الشهر الذي أقضيه هناك، تعرفت إلى هذا الشعب عن كثب، الشعب الإيراني شعب عريق ومتحضر، يحب الحياة، لكنه يشعر بالضيق من الحكم الديني، الذي يسيطر علية منذ عام 1979. الدكتاتورية الدينية وحكم الملالي جعل الشعب ساخطًا يلعن اللحظة التي أسقط فيها الشاه! كل شيء مراقب، كل شيء ممنوع، الإعلام مقيد، المنازل والشوارع والمؤسسات كلها مراقبة، سطوة الحرس الثوري الإيراني، وأذرع قوات البسيج طالت كل شيء.
خلال السنوات الأربع التي قضيتها في إيران، لم أكن أعرف شيئًا عن المحروسة إلا بعد مغادرة البلاد.
فليس على الحفارة أجهزة تلفزيون أو راديو، كما أن الانترنت غير مصرح به على أجهزة الحفر، لا يستخدم إلا للمراسلات الإليكترونية الخاصة بالعمل. كان الفيسبوك محجوبًا، كل برامج التواصل الاجتماعي ممنوعة تمامًا. المجتمع الإيراني يبدو مجتمعًا إسلاميًا محافظًا من الخارج، لكنه يكاد يرفض الدين ويكره التدين نتيجة لسطوة آيات الله، والكبت الذي يعانيه وتمارسه الدولة وحكمها الثيوقراطي المتشدد!
حدثت ثورة 25 يناير 2011 حين كنت في إيران، فلم أسمع بها إلا بعد أيام من قيامها، حين أخبرني بها بعض الزملاء الإيرانيين الذي حضروا من إجازاتهم. جلبوا لي الأخبار، وكنت أحاول الاتصال بزوجتي عبر الهاتف لأكثر من عشرة أيام، لكن محاولاتي كلها باءت بالفشل، ففهمت السبب! زاد قلقي على زوجتي وأولادي، ومن كرم الله استطعت أن أسمع صوت زوجتي يوم السابع من فبراير. كانت الأحداث قد بلغت ذروتها، وتعقدت الأمور، وزوجتي والأولاد في حالة فزع ورعب.
طلبت الرجوع إلى مصر، خشية غلق المطارات أو وقف رحلات الطيران. بالفعل؛ تم بصعوبة شديدة حجز رحلتي طيران الأولى من طهران إلى دبي عصر يوم الجمعة، الحادي عشر من فبراير، أما الرحلة الثانية فكانت من دبي إلى القاهرة في مساء اليوم نفسه.
أثناء صلاة الجمعة؛ كنت أعد حقيبة السفر في أحد فنادق طهران، ويجلس معي بعض الزملاء الإيرانيين، الذين يرفضون حكم الملالي، ويطالبون بالحرية، وعودة إيران إلى سابق عهدها وقت الشاه، إمبراطورية قوية، غنية، متحضرة، لها علاقات طيبة مع كل دول العالم.
الإيرانيون يشعرون أنهم منبوذون من كل شعوب الأرض، وأن أغلب دول العالم تفرض على دولتهم حصارًا اقتصاديًا قويًا ومقاطعة، وتقيد السفر إليها ومنها، فيصعب على الإيرانيين الخروج للسفر أو السياحة.
كان التلفزيون الإيراني ينقل صلاة الجمعة على الهواء مباشرة، وآية الله خامنئي يلقي خطبة الجمعة، ولكن العجيب أنها كانت باللغة العربية، وعن مصر وثورة شعبها!
هنا تحدث الإيرانيون بألم واستهجان: "المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، يتحدث لشعب آخر غير شعبه، وبلغة غير لغته، إذن لو سمحت ترجم إلينا ما يقوله زعيم الروحي للإيرانيين وقائد دولتهم!".
شعرت بالحرج؛ لم استطع الرد، لما كل هذا الاهتمام بمصر؟ إلى الحد الذي يجعل المرشد الأعلى للثورة الإيرانية يلقي خطبة الجمعة باللغة العربية دون الفارسية!
وصلت القاهرة مساء الجمعة، وشاهدت عبر التلفاز إعلان المجلس العسكري، خلع الرئيس مبارك.
بعد ثورة يناير؛ شاركت في تأسيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، برئاسة الدكتور محمد أبو الغار، وبدأت العمل السياسي في أمانة "مصر الجديدة ومدينة نصر" من خلال لجنة "الثقافة والإعلام".
شاركت في الكثير من المظاهرات السلمية، لكن بعد وصول الإخوان للحكم، شعرت بالإحباط واليأس.
وكلما تمكن الإخوان والتيار السلفي الداعم لهم من بسط نفوذهما على مؤسسات الدولة، خاصة الإذاعة والتلفزيون، والمنابر الإعلامية، أشعر بالحزن والغضب. لقد بدأ وجه مصر يتغير فعلا، والأناشيد الإخوانية المعروفة تتردد عبر إذاعة القرآن الكريم!
شعرت بالحسرة تأكل قلبي؛ كيف تبدل الحال سريعًا وبهذه السهولة؟ لقد تأكدت أن الفكر الإخواني والانتماء للجماعة، توغل في كثير من المؤسسات المصرية، خاصة الإعلام بعد أن تمكن من الجامعات والنقابات المصرية أثناء فترة حكم الرئيس مبارك، وبدأ يجني ثمار هذا التنظيم الذي بدأ منذ عام 1928!
تطور الموقف بعد ذلك؛ بدأ الإخوان ومؤيدوهم من حزب النور وحركة حازمون -أنصار حازم صلاح أبو إسماعيل- يشعرون بالقلق، ويستخدمون العنف ضد القوى الليبرالية. واحتلوا ميدان التحرير أيام الجمع، ليظهروا للمصريين قوتهم وأعدادهم، فيرهبوهم ويزلزل الخوف قلوبهم، جمعة "قندهار" وجمعة "الشريعة" أنواع من الجمع كان الهدف منها هو تأصيل الفرقة بين المصريين، وشحن الطائفية بنيران الفتنة، واتهام التيار المدني بالخيانة والكفر!
اكتشفت أيضًا أثناء ممارسة السياسة، أن العمل الحزبي في مصر، لا يقل سوءًا عن هذه الجماعات التي تأخذ الدين مطية لأغراضها، وأن الأحزاب المصرية من الداخل شديدة الهشاشة، يأكلها الصراع على القيادة وشهوة المناصب، وشاهدت بعينيَّ كيف يتم تهميش كل مَن يملك إمكانات جيدة وأفكار عظيمة لإصلاح الدولة. رأيت حروبًا داخلية، ومكائد لإبعاد كل العقول الشابة المثقفة والمؤمنة بعظمة هذا الوطن عن المشهد السياسي، ليحتفظ المنتفعون الأفاقون المتلونون بمناصب ليست لهم، وأنا شخصيًا تعرضت لمثل هذه المضايقات، وعانيت كثيرًا من هؤلاء!
تركت الحزب، واعتزلت السياسة، زهدًا واحتقارًا لهذه الصراعات البغيضة، لكن كل شيء تغير فجأة.
في الساعة الواحدة صباحًا من يوم الخميس 22 نوفمبر 2012، كنت مسافرًا ومعي أسرتي من القاهرة إلى مدينة كفر الزيات لزيارة عائلية طويلة. حينها قمت بتشغيل راديو السيارة، فاستمعت إلى نشرة الأخبار، كان المذيع يتلو الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره "محمد مرسي" واسماه "قرارات ثورية".
نزل الإعلان الدستوري المشوه على رأسي كالصاعقة. الحقيقة أن هذا الإعلان الذي يكرس لحكم الإخوان ويثبت دعائمهم، ويحصن قرارات الرئيس الإخواني، كان القشة التي قسمت ظهر البعير، وسببًا أساسيًا في اندفاع المصريين نحو إزالة هذا الحكم البغيض العنصري، وسيطرة المرشد على مقاليد الحكم في مصر.
قطعت العزم على أن أعود إلى القاهرة في صباح يوم الثلاثاء الرابع من ديسمبر 2012، متوجهًا مباشرة إلى قصر الاتحادية، كنت بمفردي، لكن جموع المصريين حولي بدد وحدتي، وبعث الأمل في قلبي من جديد. عشرات الآلاف من المصريين أحاطوا بقصر الاتحادية، نددنا بإعلان مرسي "الغير دستوري" الذي حصن به القرارات والقوانين التي أصدرها حتى يصدر الدستور ويتشكل مجلس الشعب!
جعل "مرسي" هذه القرارات نهائية، نافذة، لا يجوز الطعن عليها، أو وقف تنفيذها أو إلغائها، بأي طريقة وأمام أية جهة!
كان هذا اليوم من أجمل أيام حياتي، كنا نغني جميعًا "يا حبيبتي يا مصر" وسمعت سيدة تقول لطفلتها التي تبكي من التعب، وتريد أن تعود إلى البيت: "حبيبتي اصبري.. إحنا هنا عشان مصر بلدنا اللي بنحبها"
أشهد الله أني سمعتها تقول هذا الكلام لطفلتها، ويشهد الله أني بكيت!
كان معنا في هذا اليوم الفنان خالد الصاوي، وتعرض يومها للضرب. قررت في المساء العودة إلى كفر الزيات، معتبرًا أنني قد فعلت شيئًا جيدًا وهذا يكفي، لكني صدمت حين شاهدت في نشرات الأخبار ما قام به أنصار محمد مرسي بالمعتصمين من الشباب أمام قصر الاتحادية عصر يوم الأربعاء الخامس من ديسمبر 2012.
كان يومًا مؤلمًا وحزينًا لم ولن أنساه ما حييت أبدًا؛ الإخوان يعتدون على الأطفال، النساء، حارس العقار، رجل مسيحي، يخشى أن يبوح باسمه، كي لا يعرفون ديانته فيقتلوه! أيام حالكة السواد، أتمنى من الله ألا تعود ثانية، وأن يحفظ لنا هذا الوطن العظيم، بعدها شاركت في جمعة "الكارت الأحمر" يوم الجمعة 12-7.
إن الحكم الثيوقراطي، وسيطرة قوة تدعي أنها تحكم بأمر من الله يدمر الوعي الثقافي والحضارة، ويقتل الإبداع والتفكير، فكل شيء حرام، ومضيعة للوقت، وأن حرية التفكير، وإبداء الرأي من المحظورات، بل هي من الموبقات والكبائر، لأنك تشق عصا الجماعة، وتنشر الفساد! ليس هناك أفضل من الديمقراطية كوسيلة حكم، ولن نجني ثمار الديمقراطية، إلا بعد الاهتمام الشديد بالتعليم والثقافة والارتقاء بالوعي والذوق العام على مستوى الفرد والمجتمع.