منال رضوان تكتب: رغم الظلام قلب مصر لم ينطفئ
ربما نكون مجتمعات صنعتها الأحزان والملمات المتتالية؛ فكم من مؤامرات حيكت ضدنا، وحاولت أن تعيقنا ليل نهار؟
وكم من محاولات دعت إلى الفرز والتشرذم والتقزم والإلهاء والتقسيم والتفتيت؟ وفي هذا كله كانت الدولة المصرية تقف قوية ولو من بعد ضعف؛ فيرتد السهم إلى قلب من أطلقه ويقف المخطط إلى حين، لتبدأ سلسلة أخرى من تآمر جديد!
لكن الشاهد على هذه المؤامرة أنها مهما بلغت تفريعاتها وأذيالها وأذنابها؛ فإنها تفقد أطرافها على عتبات الوطن.
وتظل مصر عصية على الفرز والتجنيب والاستقطاب، حتى وإن نجحت تصرفات فردية إلى حين؛ فسرعان ما يلفظها هذا الشعب بعفويته وفطرته التي لم ينالوا منها، ويتضح ذلك في الأزمات التي يعبرها الوطن من حين لآخر؛ فتتوارى معها خجلًا العبارات القبيحة القاتمة التي وفدت إلينا معلبة سابقة الإعداد والتجهيز، وتومض أمام أعيننا عبارة واحدة تختصر آلاف الأميال من النأي والجفاء والاستعلاء وضمان التفويض الإلهي للبعض من رعاة التوكيل الحصري للإيمان! الكل يتداعى ويتساقط أمام عبارة: ''وقت الجد كلنا واحد"
وصادفتنا اليوم قصة من عشرات، وربما المئات التي تعبر عن مدى أصالة هذا الشعب، لكنها ليست غريبة عنا بحال؛ حتى وإن غضب البعض ونعت هذا الفخر والاعتزاز بمصريتنا أنها "شيفونية" وأننا ننادي بجينات فريدة ترصع رداء ذلك الشعب؛ لتبرز خيوطه موشاة مذهبة فوق أوجاعه وهمومه الكثيرة، لكن هذا كله لم يعبر عن الواقع وحقيقة معدنه.
ففي أزمة انقطاع التيار الكهربائي الأخيرة والتي تزامنت مع موعد امتحانات الثانوية العامة لطلاب الجمهورية، وساد الظلام الذي بات تهديدا لمستقبل أولادنا من الطلاب؛ خاصة وأن هذا الانقطاع يمتد إلى ساعات، وقد يفقد التوتر والإعياء الجميع التركيز والاستيعاب، وسرعان ما علت الصيحات بضرورة التصرف حيال تلك الأزمة ووجه السيد الرئيس، الحكومة بضرورة سرعة إيجاد الحلول للخروج من براثن أزمة خانقة يضيق الشعب ذرعا بها.
وسط هذا كله يتحرك نبت من أرضنا الطيبة ويستمع بقلبه إلى النداءات، ويستشعر مسئوليته الرعوية ككاهن رسالته تقديم الرعاية والعون والدعم للجميع.
يستمع مارتيروس (الأب) لصيحات الطلبة ويقرأ القلق في عيون الجميع؛ فيقرر (أبونا مارتيروس سمير) كاهن كنيسة القديسة مارينا والبابا كيرلس بالإسكندرية التحرك الإيجابي تجاه مسألة من مسائل السلم العام؛ ويصدر بيانًا وديًا بسيطًا من أب يخاطب أولاده داعيا إياهم الحضور إلى ساحة الكنيسة؛ لاستذكار دروسهم ويعلن في أبوة حانية بكلمات تغمرها المحبة مستدركا: (والشاي والنسكافيه مجانًا).
ما أجملك من راع أيها الأب الموقر؛ إذ أنك لم تسع إلى الشهرة والأضواء التي فتن البعض بها، وأتيت بمن يصور الطلبة وهم يجلسون أمام دقائق مصيرية تحدد مستقبلهم لسرقة اللقطة أو ما بات يعرف بالـ.. “ترند” الذي ابتلينا به؛ وإنما في وداعة تعلمتها وعايشتها كتبت منشورك البسيط، وكما تقول تعاليمك التي التزمت بها أنكرت ذاتك، واقتسمت محبتك فيما بينك وبين نيافة الأنبا باڤلي الأسقف العام لمنطقة المنتزة بالإسكندرية.
لتتلاحق الدعوات من كنائس عديدة تفتح أبوابها لاستضافة الطلاب ويبادر الجميع بمد يد النقاء والدعم لأبنائنا ويمثل الأب مارتيروس والذي يعني اسمه باللغة القبطية (شهيد)، حلقة من حلقات عقد الذكريات البلسمية التي تطيب الأوجاع؛ فكما قال قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية ذات يوم: “الوطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن، فإن أحرقوا الكنائس سنصلي في المساجد وإن أحرقوها سنصلي في الشوارع".. وكما كان البابا كيرلس السادس، والذي تقاسم اسم تلك البيعة (الكنيسة) مع الشهيدة مارينا يفتح قلبه وذراعيه للطلاب في أوقات الامتحان راجيا لهم النجاح والسداد لخدمة أوطانهم؛ فالآن وعقب مرور أكثر من خمسين عاما على رحيل البابا كيرلس يطبق أحد تلاميذه نصائحه بتقديم المفهموم السليم للأبوة والرعاية..
فكم أشعر بالفخر والسعادة من موقف أبناء وطني وقت إدراكنا أنه أقدس رابطة يمكن أن توحدنا.