رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"هنا توشكى".. "الدستور" داخل أكبر مشروع استصلاح زراعى بالشرق الأوسط: "الأمل يُزهر قلب الصحراء فى جنوب مصر"

توشكي
توشكي

كل شىء من نافذة الطائرة فى العادة يبدو صغير الحجم، إلا المزارع الخضراء اليانعة التى تخطف الأنظار من الوهلة الأولى، وتبدو شاسعة كواحة خضراء وسط الصحراء القاحلة، عنوانها الرئيسى: «هنا توشكى».

على الرغم من زيارتى مشروع «توشكى» فى جنوب مصر لأكثر من مرة، إلا أنه ومع كل مرة يتجدد الشعور بالفخر بهؤلاء الرجال الذين كافحوا الإحباط والتردى ببسالة مقاتلى الصحراء، ليحولوا رمالها الصفراء إلى أمل أخضر لكل المصريين.

سألنى أحد المعارف، وأنا أتحدث بصدق عما رأيته فى «توشكى»، بعد العودة من الجولة التى نظمتها إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة لعدد من الصحفيين، قائلًا: ما فائدة «توشكى» وغيره من المشروعات الزراعية ما دام هناك ارتفاع فى أسعار الخضروات والفاكهة والسلع الاستراتيجية.. فكانت هذه الإجابة؟

زيادة المساحة المستصلحة لـ420 ألف فدان فى 7 سنوات

تُمكن المشروعات الزراعية العملاقة، مثل «توشكى» وغيرها، مصر من تحقيق اكتفاء ذاتى من عدة محاصيل أساسية، مثل الأرز والذرة البيضاء والرفيعة، إلى جانب الفاكهة والخضر بمختلف أنواعها، علاوة على الدواجن وبيض المائدة، مع تصدير الفائض إلى الخارج.

وبالفعل وضعت المشروعات القومية العملاقة الدولة على طريق تحقيق الاكتفاء الذاتى، وهذا بالتأكيد سيعود على غذاء المصريين بكل إيجاب، ويسهم فى خفض أسعار السلع الاستراتيجية، رغم التحديات العالمية التى يراها القاصى والدانى.

ويعتبر «توشكى» على رأس هذه المشروعات، باعتباره نموذجًا فريدًا للتنمية الزراعية الشاملة، فى ظل ما يتضمنه من زراعة آلاف الأفدنة بمختلف المحاصيل، والعديد من المصانع المعتمدة على هذه المحاصيل، إلى جانب ما يلحق به من مشروع عمرانى متكامل، فضلًا عما يوفره من عمل لـ٤ آلاف عامل ومهندس وإدارى من محافظات الجنوب، مثل أسوان والأقصر وسوهاج.

ويشير حديث مسئولى الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضى الصحراوية، التى كان عملها فى «توشكى» نقطة تحول حقيقية لمصير ومستقبل تلك الأرض، إلى «معجزة» حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، هنا فى جنوب الوادى.

وقال مسئولون فى الشركة، لـ«الدستور»، إنهم تسلموا المشروع فى ٢٠١٧، وكانت وقتها لا تزيد مساحة الأرض المستصلحة على ٤٠٠ فدان، رغم كل «البروباجندا» القديمة حول المشروع، مشيرين إلى أن التحدى الأكبر أمامهم وقتها لم يكن درجات الحرارة المرتفعة جدًا، ولا الطبيعة الجغرافية الصعبة، ولا بُعد المسافة عن المناطق النابضة بالحياة، بل كان التحدى الحقيقى هو استعادة الثقة فى إمكانية إعادة إحياء «توشكى» من جديد.

ونجحت الشركة فى تحقيق «المعجزة» بالفعل، وتحدت كل هذه الصعاب وتخطتها باقتدار تستحق عليه الإشادة، لتصل المساحة الفعلية المستصلحة والمزروعة فى أرض «توشكى» إلى ٤٢٠ ألف فدان، فى يناير ٢٠٢٤.

يضم أكبر مزرعة تمور فى العالم.. ومحاصيل من كل لون

رغم درجة الحرارة المرتفعة للغاية، طغت مزرعة النخيل الأكبر فى العالم، ضمن مشروع «توشكى»، على كل إرهاق وعرق، خاصة أنها تعكس ما شهدته البلاد من نهضة تنموية فى المجال الزراعى خلال السنوات الأخيرة، ما أسهم فى توفير المنتجات الزراعية بالكميات والجودة المطلوبة، خاصة مع التكلفة المناسبة.

وتعكس المزرعة كيف جرى الانتقال إلى الاعتماد على «الميكنة» الحديثة فى المشروعات الزراعية المختلفة، والاهتمام فى أى من هذه المشروعات بمجال التصنيع الزراعى، للمساعدة فى توطين المصريين بأماكن غير مأهولة بعد تعميرها.

وقال عدد من مسئولى الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضى الصحراوية إن المزرعة تضم ١.٦ مليون نخلة، مع خطط لزيادة العدد إلى ٢.٥ مليون نخلة قريبًا، وهى تشتمل على نحو ٤٤ من صنوف التمر ذى الجودة الرفيعة، لتجعل مصر من الدول العشر الكبار فى إنتاج وتصدير التمور.

وأضاف مسئولو الشركة: «من ضمن أهداف المشروع أن تحتل مصر المكانة اللائقة بها عالميًا فى إنتاج التمور»، مشيرين إلى أنه «بداية من العام المقبل ستطرح الشركة فسائل لبعض الأنواع النادرة، سواء فى السوق المحلية أو للتصدير».

ولا يقتصر الأمر هنا على التمور فحسب، بل تُثرى هذه الأرض المباركة موائدنا بأنواع مختلفة من العنب والمانجو، وتُطبق تجربة زراعة المساحات البينية بين النخيل ومزارع العنب، لتُحول كل شبر من الأرض إلى واحة خضراء.

وجارٍ التوسع للوصول إلى مساحة ٢٥ ألف فدان مزروعة بالمانجو فى «توشكى»، بالإضافة إلى زراعة العنب والقطن قصير التيلة وطويل التيلة، والبنجر وقصب السكر باستخدام أقل للمياه، علاوة على زراعة الأعشاب الطبية والعطرية، والخضروات، وبالطبع القمح.

هناك أيضًا «الجوجوبا» المسمى بـ«الذهب الأخضر»، وهو نبات زيتى ذو جدوى اقتصادية عالية وصديق للبيئة، إذ يطلق الفدان الواحد ١٥٠ طن أكسجين فى العام، ويمتص ٢٢ طن ثانى أكسيد الكربون. وتنفذ الشركة الوطنية مشروعًا لهذا المحصول بمساحة ٦ آلاف فدان، جارٍ تنفيذ مرحلته الأولى بمساحة ٣ آلاف فدان.

زراعة نصف مليون فدان قمحًا باعتباره محصولًا استراتيجيًا.. ومشروعات ضخمة للثروة الحيوانية

قال ممدوح أحمد محمد، مهندس زراعى بمشروع «توشكى»، إن المساحات المزروعة بالقمح وصلت إلى نصف مليون فدان هذا العام، باعتباره المحصول الاستراتيجى ضمن المشروع القومى الكبير.

وأوضح المهندس الزراعى أن الفدان الواحد ينتج بين ١٨ و٢٠ إردبًا للفدان فى المتوسط، ومن المتوقع ارتفاع هذه الكمية إلى ٢٢ إردبًا للفدان خلال الفترة المقبلة، بالتزامن مع زراعة محاصيل أخرى مهمة، مثل الذرة الشامية البيضاء التى تدخل فى صناعة الدقيق، وكذلك البطاطس والفول السودانى.

وأضاف المهندس بقطاع القمح: «نسارع الزمن لزيادة المساحة المزروعة بالقمح فى المشروع إلى ٦٠٠ ألف فدان، بهدف خفض الاستيراد من الخارج»، مطالبًا كل المصريين بعدم تصديق الشائعات التى تتردد حول المشروع، وزيارة الموقع بأنفسهم لرؤية ما يفعله شباب مصر على أرض الواقع.

ولأن الاستدامة هدف أساسى فى «توشكى»، يشهد المشروع إقامة مصانع حديثة لتحويل مخلفات النخيل إلى خشب ذى قيمة عالية، مع تطبيق أحدث تقنيات الرى لترشيد استهلاك المياه، علاوة على التخطيط لمشاريع ضخمة للثروة الحيوانية، فى ظل وفرة الأعلاف من زراعة القمح.

واللافت فى حديث مسئولى الشركة المسئولة عن مشروع «توشكى» هو تأكيد التزام الشركة بدفع التزاماتها لمؤسسات الدولة، على رأسها الكهرباء، مشيرين إلى أن توجيهات القيادة السياسية حاسمة فى هذا الأمر، إلى جانب الحفاظ على كل نقطة مياه واستغلالها بالشكل الأمثل.

أخيرًا، هنا بين مزارع العنب والمانجو وأشجار النخيل وأفدنة القمح، لن يكون فى مقدورك سوى الشعور بأمر واحد فقط، هو أن العاملين فى هذا المشروع القومى الضخم لم يزرعوا المحاصيل ويقيموا عددًا من الصناعات المعتمدة عليها فقط، بل زرعوا الأمل، وأثبتوا، بالدليل، قدرة المصريين على هزيمة المستحيل.