«دواعى السفر».. شاطئ راحة
في سوق مزدحمة ترتفع فيها أصوات الباعة حتى تكاد تصم آذان الزبائن، وتحجب سماءها مصابيح ذات ألوان زاعقة تكاد تعمى الأبصار، آوى محمد ناير إلى دكان يعصمه من الضوضاء، فأخذ موضعًا أسفله وفوق رأسه علّق لافتة ذات أضواء خافتة مكتوب عليها «دواعى السفر».
عالم جديد خلقه «ناير» فى مسلسله «دواعى السفر» (إنتاج Watch It) في عشر حلقات. عالم هادئ يشبه أبطاله تمامًا وخصوصًا أمير عيد، ابن المعادى، الحى الذى تدور فيه الأحداث حول آلام الوحدة ومحاولات الخلاص منها.
«قدّم ما ينفع الناس»، كانت تلك نصيحة والد على (أمير عيد)، الذي عانى بعد وفاته من اكتئاب حاد، كاد أن ينهيه بالانتحار، غير إن اتصالًا من سمسار عقارات أفسد الخطة وفتح بابًا جديدًا من الحياة لشخص يعانى وحدة قاتلة.
نصيحة والد على هى ما تستشعره فى أداء جميع أبطال العمل، وعفوًا عزيزى القارئ سأرهقك معى بكتابة أسمائهم جميعًا لأنهم جميعًا يستحقون التحية «أمير عيد- كامل الباشا- نادين- أحمد غزى- أيمن الشيوى- عبدالرحيم حسن- مريم ناعوم- جلا هشام- أحمد فاضل- آية حلمي، تأليف وإخراج محمد ناير».
حقق المسلسل معادلة صعبة للغاية. فطبائع الأمور فى درامتنا المصرية مؤخرًا أن تختار ممثلًا ذا صوت أجش، يزعق فى المشاهدين ليل نهار، بسبب ومن دون سبب، يضمر الضغائن ويتحين للانتقام، ويلقى بـ«إفيهات مسجوعة»، إذا لزم الأمر وإذا لم يلزم، حتى يلوكها الناس على منصات التواصل الاجتماعى.
فى «دواعى السفر»، رست سفينة مجموعة من الممثلين الحقيقيين على شاطئ هادئ يقصده مَن ملّوا إسفافًا بلغ الزبى. ولم يخيب الظن، فما إن اتخذ كلٌ مقعده حتى عزف أمير عيد وكامل الباشا وبقية أبطال العمل سيمفونية رائعة تداوى جراح الوحدة وآلام الصمت والانعزال.
ورُغْم حداثة الفكرة على إنتاجنا الدرامي، والتى عادة ما يُقدَّم شبيهها فى مهرجانات غير جماهيرية، لكن المسلسل نجح فى بلوغ الحسنيين، الفكرة الطازجة الغريبة على الدراما المصرية، والنجاح الجماهيرى، الذى ظهر فى تفاعل الجمهور خصوصًا من الشباب على الشبكات الاجتماعية.
والحقيقة أن جزءًا كبيرًا من نجاح المسلسل يعود إلى بطله أمير عيد، الذي يصدّقه الناس. يصدقون مغنيًا وممثلًا. لا يلف ولا يدور ولا يخدع جمهوره. عهده معهم أنه كتاب مفتوح، لا يعِد بما لا يستطيع تقديمه. ويعمل بنصيحة «والد على»، وهى تقديم ما ينفع الناس.
عمود آخر استندت عليه خيمة العمل، هو كامل الباشا. جوهرة فلسطينية نادرة، أصالته فى فنه من أصالة بلده. بالتأكيد يشترك معى مشاهدون آخرون تساءلوا بعد مشاهد تعدّ على أصابع اليد: أين هذا الرجل من الدراما المصرية التي تطفح بكثير من العاديين وأقل. ممثل وزنه الذهب، من طينة رشدى الشامى. قدّم معاناة مزدوجة لرجل ينازع الموت والوحدة ويؤثِر على نفسه لأجل نجاح ابنته وإبعادها عن معايشة وجع طويل وبطىء.
ولو أنه وجه جديد بالنسبة لنا كمصريين، فالرجل مسرحى قدير شارك بالتمثيل والإخراج فى عشرات المسرحيات، وحاز جائزة «أفضل ممثل من مهرجان فينيسيا السينمائى» عام 2017، عن دوره فى فيلم «قضية رقم 23».
بمهارة فائقة صنع الباشا وأمير عيد ثنائية قلمّا شاهدناها، بين «إبراهيم» ربّان متقاعد يخلق عالمًا زائفًا بالكامل ويعيش وحيدًا، وبين «على»، مخرج الإعلانات الشهير، الذي لم يجد السعادة في الشهرة وتحقيق الذات بعد وفاة والده.
ثنائية ناير وعيد، بعد «ريفو» بجزءيه، و«دواعى السفر»، لا تزال تتعطش لمزيد من الأعمال التى تنبش فى النفس البشرية وتنتقى «ما ينفع الناس» منها.