الفقيه.. والحسابات الخاطئة
شكّل التمرد الذى قاده عبدالرحمن بن الأشعث واحدًا من أكبر التحديات التى واجهت الدولة الأموية بصورة عامة، والحجاج بن يوسف الثقفى- كبير قادتها- بشكل خاص. وجهًا لوجه وقف قائدان لا يقل أى منهما عن الآخر قدرة أو مهارة أو طموحًا أو حتى دموية، تعددت بينهما الجولات وتوالت المعارك، هذا يفوز اليوم، وذاك يفوز غدًا، لكن «الحجاج» تمكن من حسم الأمر لصالحه فى الختام، ليثبت أن هناك فارقًا كبيرًا بين المغامر الذى تسوقه طموحات تفوق قدراته، ورجل الدولة الذى تتسق طموحاته مع قدراته. «ابن الأشعث» كان صنيعة «الحجاج». فالأخير هو الذى وضعه فى موقعه، وعينه قائدًا للجيش الذى تم تجريده لتأديب «رتبيل» ملك الترك، لكن «ابن الأشعث» انقلب عليه، ويبدو أنه كان يرى فى نفسه قيادة لا تقل كفاءة عن «الحجاج»، وظن فى نفسه القدرة على مواجهته.
من الملامح الأساسية التى ميّزت تمرد «ابن الأشعث» مشاركة عدد كبير من القراء والفقهاء فى المعركة التى نشبت بينه وبين الحجاج. انحاز أغلبهم إلى «ابن الأشعث»، وأقلهم إلى «الحجاج»، وظهر من بينهم أيضًا من وقف على الحياد بين الطرفين، مثل «الحسن البصرى». كان القراء والفقهاء فى تلك الأيام يمثلون الطليعة أو النخبة المثقفة داخل المجتمع المسلم، وكان وجودهم إلى جوار طرف معين فى أى صراع مصدر قوة له وآلة لإضعاف خصمه، لكن الأمر بدا مختلفًا فى تجربة هذه النخبة مع «الحجاج». كان «ابن يوسف» رجل دولة بالمعنى الكامل للكلمة، يعلم أن كثرة من المثقفين والمؤثرين يحركهم خليط من المبادئ والمطامع، فكان يعطيهم، ويجزل لهم فى العطاء مقابل الولاء للدولة. وعندما يخرج المثقف على النظام، فيخلع بيعة الخليفة من رقبته، كان يعرف كيف يعالجه بإقامة الحجة عليه، ويعاجله بالتأديب، كما فعل مع واحد من أشهر الفقهاء المنحازين لـ«ابن الأشعث»، وهو العالم الفقيه «سعيد بن جبير».
وقد انتهى الصراع ما بين «ابن الأشعث» و«الحجاج الثقفى» بانتصار الثانى، وسيق «ابن الأشعث» ويده مكبلة بالحديد، ورجل موكل بحراسته حتى لا يفر، حتى إذا وصل مكانًا يقال له «الرجح»، خادع حارسه وأغراه بالصعود إلى سطح أحد القصور وألقى نفسه من أعلى، فسقط وسقط معه الموكل به فماتا معًا. بعد وفاة «ابن الأشعث» هرب سعيد بن جبير، لكن تمكن خالد بن عبدالله القسرى- والى مكة- من القبض عليه، وأرسل به إلى الحجاج، وكان بين الرجلين هذا الحوار الذى حكاه «ابن كثير»: «فلما أوقف بين يدى الحجاج قال له: يا سعيد ألم أشركك فى أمانتى؟ ألم أستعملك؟ ألم أفعل ألم أفعل كل ذلك؟ يقول: نعم! حتى ظن من عنده أنه سيخلى سبيله، حتى قال له: فما حملك على الخروج علىَّ وخلعت بيعة أمير المؤمنين؟. فقال سعيد: إن ابن الأشعث أخذ منى البيعة على ذلك وعزم علىَّ، فغضب عند ذلك الحجاج غضبًا شديدًا وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه، وقال له: ويحك ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبدالملك؟ قال: بلى! قال: ثم قدمت الكوفة واليًا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية؟ قال: بلى! قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتفى بواحدة للحائك ابن الحائك؟ يا حرسى اضرب عنقه. فضربت عنقه».
حوارات كثيرة بين «الحجاج» وسعيد تجدها متناثرة فى كتب التراث، يشير بعضها إلى أن «الحجاج» هم بالعفو عن «سعيد»، لولا حديثه عن بيعته لابن الأشعث، وأن «الحجاج» استشاط غضبًا لما سمعه يحتج بها، فى حين أن فى رقبته بيعتين للخليفة عبدالملك. مع فقهه وعلمه وتقواه لا يستطيع أحد أن يبرئ سعيد بن جبير من الطموح إلى المناصب. ويبدو أن «الحجاج» كان يعلم فيه ذلك، فولاه نفقات الجند واستعمله وأكرمه، مقابل مبايعة البيت الأموى. ويبدو أيضًا أن «الحجاج» أدرك أن سعيدًا كان يطمح إلى المزيد لدى «ابن الأشعث»، وحقيقة الأمر أن الأخير لم يكن يقل دموية ولا غرورًا عن الحجاج، فى كل الأحوال يشهد الحوار السابق على أن الحجاج لم يقتل سعيدًا إلا بعد أن أقام الحجة عليه، ورغم ذلك فإن مشاهد الصراع الدامى لم تتوقف عند هذا الحد، فكتب التراث تذكر أن «الحجاج» ندم ندمًا شديدًا على قتل «سعيد» ومات بعده بأربعين يومًا، وكانت آخر كلمات ينطق بها: «ويل لى من سعيد». يقول «ابن كثير»: «فلم يلبث الحجاج بعده إلا أربعين يومًا، وكان إذا نام يراه فى المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول: يا عدو الله فيم قتلتنى؟ فيقول الحجاج ما لى ولسعيد بن جبير؟ ما لى ولسعيد بن جبير؟».