رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجارب المثقفين مع الحج.. فكرى داود: التجربة انتشلتنى من الوحدة والاغتراب وقلة الحيلة

فكرى داود
فكرى داود

 

من المعروف أن الحج هو الركن الخامس للإسلام، ولأنه يحتاج إلى قدرات مادية وروحية خاصة، فقد جعله الله لمن استطاع إليه سبيلًا، ومن حسن حظى أننى أُعِرتُ إلى السعودية ٥ سنوات كمعلم، من ١٩٩٥ حتى ٢٠٠٠، وعليه بت ممن يستطيعون أداء الفريضة.

ولما كنت وحدى فى العام الأول ١٩٩٥ أديتها وحدى، ثم أديتها فى العام التالى ١٩٩٦ كمرافق لزوجتى التى أدركتنى فى المملكة، وعدت فى العام الخامس والأخير ٢٠٠٠، فأديتها نيابة عن والدى الذى توفاه الله قبل نزولى مصر فى إجازة العام الأول ١٩٩٥، وكم كان حزنى كبيرًا لفقده وعدم تمكنى من المشاركة فى مراسم دفنه، كما اعتمرت فى نفس العام لوالدتى، رحمة الله عليها.

وكان طبيعيًا بالنسبة لى ككاتب أن أتأثر بتجربة الحج تمامًا، خاصة فى الحجة الأولى، التى عشت عامها مع متعاقدَين مصريين بسكن واحد، فى قرية صحراوية نائية، حيث البشر قليلون جدًا، والقرود والحشرات لا تحصى عددًا. ظللت هذا العام مشاركًا المتعاقدين فى المعيشة من طعام وشراب وخلافه، زادى وزوادى، حقيبة كتبى التى استقدمتها معى من مصر، وتأمل المنطقة والحياة الغريبة بها.

انتقلت إلى إحدى مدن الجنوب بعد استقدام أسرتى، لأقضى بها سنوات أربع وأحج مرتين أخريين، إحداهما مع زوجتى والأخرى التى قضيتها عن والدى، رحمه الله، وحصدت تجربة ثرية وثقيلة، وخبرة كونت أحد مشاريعى الإبداعية، وهو الكتابة عن الاغتراب فى أرض جبلية وصحراوية.

ولقد أتت تجربة الحج الأولى، بعد شهور قليلة من دخول المملكة، واصطدامى بأننى صرت وجهًا لوجه مع الوحدة وقلة الحيلة ولا عزاء ولا معزين لو وقع قدر الله، وفقدت أى جزء من الأجزاء بدنيًا أو نفسيًا، خاصة وشريكىّ السكن كانا بعيدين كل البعد عن أى سيرة للثقافة أو الكتابة، كأنهما آلتان لجمع وعد النقود وإعداد كشوف الحسابات.

لذا لم تكن الحالة النفسية أفضل شىء، رغم عدم وجود مشاحنات أو ما شابه. ليأتى الحج فى وقته تمامًا، وأعيش كل تفاصيله، متناسيًا الدنيا وما فيها، فيغسلنى من الداخل، ويعيد ترميم وجدانى الذاتى، ويمنحنى دفعة روحانية كبيرة، لمواصلة العمل وتحمل الحياة عمومًا.

وعندما استقدمت زوجتى فى العام التالى، لم يكن معنا سوى ابنتى «سارة» -رحمة الله عليها- ولم يمض عام إلا ورزقنا الله بابنتى «أميرة»، وهى الآن أم لحفيدى «سارة» و«آدم»، ثم رزقنا الله فى آخر عام للإعارة بـ«عبدالرحمن». والجدير بالذكر، أننا اعتمرنا معًا عمرة رمضان، لكننا لم نستطع اصطحاب أىّ منهم فى أى حجة، لصعوبة أداء المناسك وإقامة الشعائر.

وهناك صفحات كاملة فى رواياتى، تتناول تجربة الحج وآثارها النفسية والروحية على حياتى كلها، حيث داخلنى اليقين أن الحياة قصيرة جدًا، ويجب أن يعد المرء عدته استعدادًا للرحيل، وأن يكون ضميره مستيقظًا ومحاسبًا قدر استطاعته، فالله موجود، والحساب قادم لا محالة للجميع، لا فرق بين هذا وذاك، وها هو مشهد أو مشاهد الحج خير شاهد، الكل سواسية فى الزى وفى أداء المناسك، وفى التضرع إلى الله.

وعلى الكاتب مثلى أن يضع كل ذلك فى الحسبان، فهو معنى بالتعبير وإظهار مواطن الخير والحق والجمال، وأظننى حرصت على هذا، خاصة فى رواية «المتعاقدون»، الصادرة عن سلسلة «كتاب اليوم» بدار «أخبار اليوم» ٢٠٠٩، ورواية «المحارم» الصادرة عن دار «أفاتار» ٢٠٢٠.

والحقيقة أننى أحمد الله سبحانه وتعالى على تيسيره لى ولأسرتى الأمر، لأداء تلك الفريضة العظيمة، خاصة أنها كانت من أهم أهدافى من إعارتى، إلى جانب الأهداف المادية طبعًا.

كما أن خبرة الرحلة الإنسانية تعد أيضًا من أعظم المكاسب التى أنتجت عدة أعمال إبداعية أعتز بها، عبرت عن السفر بشكل عام، وتجربة الحج بشكل خاص، منها: مجموعتى القصصية «صغير فى شبك الغنم» الصادرة عن هيئة قصور الثقافة ٢٠٠١، وروايات: «عام جبلى جديد» عن «دار الإسلام» ٢٠٠٦، و«وقائع جبلية» عن هيئة قصور الثقافة ٢٠٠٧، و«المتعاقدون» عن سلسلة «كتاب اليوم» ٢٠٠٩، و«المحارم» عن دار «آفاتار» ٢٠٢٠.

أود أخيرًا أن أقول إننى لو مددت بقائى بالمملكة لسعيت لأداء فريضة الحج مرات أخرى، رغم أن مرة واحدة تجزئ، لكننى فضلت أن أقدم استقالتى بعد العام الخامس، لأن الرحلة حققت معظم أهدافها الروحية والمادية، وأنا ممن لا يميلون إلى الاغتراب غير المشروط أو اللانهائى.