عاوزنها تبقى خضرا
حالة يرثى لها وتستوجب الشفقة والتأمل! الوضع الذي آلت إليه الأراضي الزراعية في مصر، بما تعانيه من: تجريف وبناء عشوائي سلبها طبيعتها الخضراء وحولها من سابق زرعها إلى منتجعات وعمائر اكتظت بالسكان.
سبحان مغير الأحوال ومبدلها، منذ ثلاثة عشر عامًا انقضت، كنت أستقل القطار من محطة "دمنهور" إلى "القاهرة"، عندما كنت طالبًا بالفرقة الأولى بكلية الإعلام، وبمجرد أن أجلس بجوار نافذة القطار وأنظر منها أجد المساحات الخضراء الشاسعة، أراض زراعية خضراء تسر الناظرين.
جمال رباني، لا تغمض العين ولا تمل من النظر إليه، تنظر يمينًا وشمالًا فتجد الزراعة على طول شريط السكة الحديد، الأشجار تزيين الحقول، المساحات الخضراء كفيلة أن تذهب بك رحلة إلى عالم الخيال، تسرح في برسيم البحيرة، وقمح الغربية، ثم تقترب من المنوفية والقليوبية أشجار الموالح المنتشرة على جانبي السكة الحديد وروائحها العطرة، مشاهد لاتراها إلى على أرض مصر.
هكذا بدت لي مصر من شباك قطار دمنهور القاهرة، وها أنا الطالب الحاصل على الثانوية الأزهرية من قرية في ريف مصر، أترك قريتي وأتجه إلى القاهرة لأجلس على كرسي القطار وأنظر من نافذته التي كانت بالنسبة لي عالم جديد، عالم محفوف بالخير والخضر والزرع، هكذا بدا لي عالمي الجديد منذ الوهلة الأولى التي غادرت فيها منزلي القروي لأول مرة.
جمال وطبيعة، كنا نبتهج جميعًا عندما يقف القطار على شريط السكة الحديد، لدقائق معدودات ننزل سريعًا من عربات القطار، نجالس الزرع ونحاكيه نلتقط صور تذكارية مع الطبيعة في الأراضي الزراعية، لا نريد أن يتحرك القطار بقدر ما أننا نرغب أن نستظل بظل الشجر ونرتوي من عطره النفاذ.
كانت الأرض الزراعية جمالًا وطبيعة، لكن ومع مرور الأيام وتواتر الأحداث، تبدلت الأحوال، اندثرت الأرض الزراعية، بل اختفت: لم تعد موجودة، اختفت الزراعات امتلأت الأرض بالمباني والعمائر والأبراج، كيف تبدلت مصر، كيف سلب أهلها خيرها، واستولوا على زرعها؟
تغيرت الأحوزة العمرانية، كبرت النجوع والكفور، تشابكت القرى وتداخلت، لم نعد نعرف معالم قريتنا، لم تعد ترى ما كان يسر الناظرين.
الآن وبعد كل هذاـ لا يزال القطار ينطلق من محطتيه، ويمر على سابق عهده، الجميع موجود، محطة "دمنهور" موجودة، و"القاهرة "أيضًا، ولا أزال أجلس بجوار نافذة القطار، وأنظر باحثًا عن الزرع والخضر، الركاب يستقلون القطار، حضر كل شىء، لكن ـ غابت الأرض، غاب الزرع، غاب أفضل وأجمل ما كان يميز مصر.
من المسؤل عن ذلك؟ هل المواطن الباحث عن بناء جديد وسكن له ولأسرته وهو محق؟ هل الحكومة السابقة التي أهملت التخطيط بشكل يسمح للمواطن البناء على أرضه مع الحفاظ عليها؟ أسئلة كثيرة تدور في الأذهان، وهنا استدعي بعض كلمات الأغنية الشهيرة "عايزينها تبقى خضرا الأرض اللي "بقت صحرا"، سوء التخطيط وسوء الوعي من الجانبين بين المواطن والحكومات السابقة، هو ما أوصلنا إلى هذه الحالة الظلامية التي آلت إليها الأراضي الزراعية في مصر.
الخطر الحقيقي في مصر هو الوعي، فقلة الوعي تؤدي إلى الهلاك، الحفاظ على ماتبقى من الأرض الزراعية مسئولية الحكومة الحالية، التي نجحت في وقف الزحف العمراني والبناء العشوائي، من خلال موجات الإزالة والعقوبات على كل مخالفي البناء، لكن الأهم من رقابة الحكومة، أو تطبيق القانون، هو ثقافة ووعي وفهم المواطن، لا بد أن يدرك أن الأرض الزراعية ثروة ليست له ولأسرته إنما هي ثروة الأجيال، وحقوق الأبناء والأحفاد.
فيا أيها الذين يملكون زمام الأمور في مصر، ويا أيها المواطنون، أصلحوا يصلح الله لكم، وحافظوا على ماتبقى من الأراضي الزراعية لأننا ببساطة "عاوزينها تبقى خضرا".