رمضان «ودخان البنا»
قبل أيام من شهر رمضان عام ٢٠١٠ خرج المرحوم جمال البنا بفتوى شديدة العجب، يذهب فيها إلى أن تدخين السجائر أو المعسل لا يفطر فى نهار رمضان، من منطلق أن الصيام يعنى الامتناع عن الأكل والشرب والرفث من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، واستند إلى فتوى أحد المراجع الشيعية آية الله محمد حسين فضل الله بأن تدخين السجائر لا يفسد الصيام، وأن الفقيه الحنفى «ابن عابدين» أفتى بالفتوى نفسها، ولم يحرم التدخين فى نهار رمضان.
مثلها مثل جميع الفتاوى الشاذة أثارت فتوى «البنا» الكثير من الجدل داخل مصر، حتى بين من يعانون العنت نتيجة الامتناع عن التدخين فى نهار رمضان، كان لهم موقف رافض من الفتوى.. والفتاوى الشاذة هى الفتوى التى يقول بها الآحاد من رجال الدين، ويمكن قبولها ولا شك إذا استند صاحبها إلى أدلة شرعية منطقية مقنعة، أما القياسات الساذجة فى مسألة إتاحة التدخين فى نهار رمضان، بناءً على أن جوف الإنسان يمر إليه الكثير من التراب والمنقولات عبر تنفس الهواء، بما فى ذلك دخان السيارات وخلافه، وبالتالى لا يضر إن دخل جوفه أنفاس سيجارة أو خلافه، فالفتوى هنا لا تبارح مربع الشذوذ، والهدف من ورائها لا يزيد على إثارة الجدل.
فكرة الصيام أساسها الامتناع عن شهوات الجسد أو النفس، وجوهر الامتناع هو الإرادة الفردية التى تتحقق عبر عقد النية على الصوم، والنية كما تعلم هى الركن الأول الذى يسبق ركن الامتناع. ينوى المسلم الصيام- والنية محلها القلب- ثم يمتنع بإرادته عن إتيان شهوات الجسد أو النفس، ويترتب على ذلك أن الصائم يصبح مسئولًا فقط عما يدخل فى دائرة إرادته، أما غير ذلك فلا يفسد صيامه. وعندما يسحب الشخص سيجارة ويشعلها ويبدأ فى تدخينها، فإن ذلك يحدث بكامل إرادته، والدخان هنا لا يشبه أى شىء يدخل جوف الإنسان من الهواء رغمًا عنه ولا إرادة له فى دفعه، وينطبق ذلك أيضًا على ما يدخل جوف الإنسان من طعام أو شراب وهو ناسٍ، فالنسيان خارج إرادة الإنسان، وبالتالى من أكل أو شرب ناسيًا يكمل صومه، وكما قال النبى، صلى الله عليه وسلم، فى الحديث: «فإنما أطعمه الله وسقاه» أى على غير إرادة منه. وإذا كان الصائم منهيًا عن الصخب أو رد السب، أو التشاجر، أو وإخراج أى كلمة نابية من جوفه، فهل يكون مباحًا له أن يسحب دخان السجائر والمعسل إلى داخله جوفه ومنه إلى الرئتين بكيفه وبكامل إرادته؟.
أظن أن التوفيق جانب المرحوم جمال البنا، وغيره من الآحاد الذين ذهبوا هذا المذهب، والذين يوجد مقابلهم طابور طويل عريض من الفقهاء الذين أفتوا بأن التدخين فى نهار رمضان من المفطرات، بل ومنهم من يحرم التدخين فى المطلق، سواء خلال الصيام أو الإفطار، مستندًا إلى ما يلحق الإنسان من أضرار صحية تنتج عنه. وقد ارتبطت فتاوى تحريم الدخان بالفترات الأولى لظهوره داخل المجتمعات المسلمة، أيام ما كان «الشُبك» هو أداة التدخين، وليس صندوق التبع.
ويبدو أن جمال البنا، رحمه الله، كان يراقب الواقع فيرى أن من بين المدخنين من يشعر بنوع من الارتباك العصبى خلال نهار رمضان، فاندفع إلى فتواه العجيبة.. وقد حكى المبدع الراحل أحمد بهجت، وهو كما تعلم واحد من كبار كتاب جريدة الأهرام فى عصرها الذهبى، فى كتابه «مذكرات صائم» موقفًا عاشه فى أحد الأتوبيسات، عندما قام أحد الأشخاص الذين تظهر عليهم أمارات الصحة بإشعال سيجارة وتدخينها فى نهار رمضان، فانطلق بعض الركاب إلى سلقه بلسان حاد، والرجل المفطر يتأمل الجميع بسرور بارد. يقول أحمد بهجت: «ابتسمت بينى وبين نفسى. احترمته لصراحته. رحت أتأمل عدد المعترضين عليه، كان عددهم يزداد، قلت لنفسى من المستحيل أن يكون كل هؤلاء صائمين، نقول إن فيهم ٤٠٪ من الصائمين. قطعًا هذه النسبة صامتة ولا تتحدث، يحس الصائمون دائمًا بالاستعلاء تجاه المفطرين وقلما يكلمونهم فى الصيام، من الذى يعترض على إفطاره إذن، قطعًا بقية المفطرين فى الترام». لم يكن الكاتب الكبير مفطرًا يومها، رغم أن ركاب الترام ظنوه كذلك، لقد أراد الرجل أن يكشف لهم نفاقهم للسماء، ويقول فى ذلك: «هكذا نحن دائمًا نفكر فى شىء ونقول شيئًا آخر.. نؤمن بشىء ونتصرف عكس ما نؤمن، ونتحدث بشكل لا علاقة له بهذا أو ذاك. إذا تعلق الأمر بذنوبنا أقسمنا بأن الله تعالى غفور رحيم. وإذا تعلق الأمر بذنوب الآخرين أقسمنا بأن الله شديد العقاب.. منافقون نحن معظمنا حتى النخاع، ومهرة فى الكذب على الآخرين، وأشد مهارة فى الكذب على أنفسنا، نرتكب ذنوبنا بفن عظيم. فإذا ورد ذكر الفضيلة فى الحديث ألفيت الجالسين جميعًا أئمة فى الحديث ومشايخ، وتسأل نفسك: إن كانوا جميعًا بهذا الفضل فمن أين جاء اللصوص؟»
رحم الله الكاتب الكبير أحمد بهجت والراحل المجتهد جمال البنا الذى أثار جدل الدخان فى نهار رمضان.