عشريات «رمضان» الثلاث
قالت جدتى: أيام رمضان ثلاث عشرات؛ عشرة مرق، وعشرة حلق، وعشرة خرق.. كانت الجدات يرددن هذه المقولة ومن خلفهن الأمهات فى وصف أيام الشهر الكريم.. فالأيام العشرة الأولى هى أيام المرق «أى الطبيخ»، فكل الهم فيها يتوجه نحو تزويد البيت بالمؤن الغذائية اللازمة للمأكولات والمشروبات والحلويات اللازمة لاستقبال الشهر الكريم.. فالمشاهد الأولى التى يعاينها من يتابع رمضان المصريين، هى مشاهد الطعام والعزومات وتبادل الأطباق الشهية.. وأواخر العشرة الثانية تنطلق رحلة تجهيز كعك العيد، حيث تمتد الأيدى إلى «طشوت» الدقيق المخلوط بالسمن، وتبدأ فى إعداده للتقطيع فى الصاجات كعكًا وبسكويتًا وفطيرًا، يسر الناظرين، وينشر البهجة، ويشعل الإحساس بفرحة العيد.. وتكتمل الفرحة بالعشرة الخرق، بما تعنيه من شراء ملابس العيد، ولحظات السعادة الغامرة التى يعيشها الصغار وهم يقفون أمام فاترينات المحال المضيئة، يتأملون الملابس التى يحلمون بأن تزين أجسادهم فى العيد.
لم تكن الدنيا فى الستينيات والسبعينيات من الثراء أو التنوع المتاح اليوم، سواء على مستوى الطعام، أو الملابس، أو صناعة كعك العيد.. كل شىء كان بسيطًا لكنه مبهج وممتع.. وحقيقة لست أدرى ماذا كان مصدر المتعة حينها، وهل هى مرحلة الطفولة التى كنا نحياها، والتى هى بطبيعتها ممتعة، أم المناخ العام السائد وقتها، الذى كان يسيطر عليه الحب والدفء والترابط ورغبة كل فرد فى إسعاد غيره، أم بساطة الأشياء، بما تعكسه من بساطة الحياة وعدم تعقيدها، وسعادة الإنسان بأقل القليل؟ فى تقديرى أن ثمة سببًا آخر يتعلق بمتعة الناس فى الماضى بكل عشرية من العشريات الرمضانية الثلاث أكثر من استمتاعهم بها فى الوقت الحاضر.. إنه الفارق بين البهجة الحقيقية والبهجة المستعارة.. بهجة الأمس كانت حقيقية بمعنى الكلمة؛ لأن كل الأيدى داخل البيت كانت تمتد إلى صناعتها.. أما بهجة اليوم فمستعارة؛ لأنها مجلوبة من خارج البيت مقابل ثمن.
خلال فترة الستينيات حتى أوائل السبعينيات لم تكن البوتاجازات قد انتشرت فى مصر، وكان «باجور الجاز» هو أداة الطهو الأكثر انتشارًا.. قبل الشهر الكريم بأيام اعتاد الصغار على حمل «البواجير» وراء أمهاتهم والذهاب إلى محل تصليحها أو مراجعتها حتى تكون على أعلى مستوى من الكفاءة فى رمضان.. والكل فى أيام الشهر الكريم كان يساهم فى إشعالها، فهذا يشعل فيها النار.. وهذا يسلك «الفونيا» حتى يتدفق منها «الجاز».. وهذا يعطى الباجور «نَفَسًا» حين يسخن حتى تشتد شعلته وتزداد انتظامًا.. ما أكثر الأيدى التى كانت تمتد بعد ذلك؛ لتساهم فى إعداد الطعام والكنافة والقطائف، ليخرج كل صنف على أعلى مستوى من الجودة، بعد أن تعب الجميع- أو قل استمتع- بصناعته، ليعيشوا لحظات من البهجة الحقيقية وهم يطعمونه.. أما زماننا هذا فالدنيا فيه مختلفة، إذ بات أغلب الأشياء مصنوعًا.. فأسر متعددة ومن طبقات اجتماعية واقتصادية متنوعة أصبحت تعتمد على الطعام المصنوع خارجها، أو الوجبات الجاهزة التى تعدها مطاعم شهيرة، أو مطاعم متخصصة فى إعداد الوجبات للأسر، التى لا يجيد أفرادها أو لا يجدون الوقت لصناعة ما يأكلون.. إنه عصر «الدليفرى» الذى أصبح يسيطر على كل شىء، وجعل الأسرة تستعير بهجة الاستمتاع بالعشرة المرق من شهر رمضان من خارجها، فأفقدها الكثير من زخمها.
كعك العيد أيضًا كان فى الماضى من صناعة الأسرة، وحين يحين وقت إعداده كانت الأسر داخل البيت الواحد تتشارك معًا فى صناعته.. خصوصًا السيدات والأطفال.. يتنقل الجميع من شقة إلى شقة على مدار الأيام العشرة وما بعدها، حتى ينتهى جميع الأسر من إعداد «الكحك والمنين والبوريك والفطير والبسكويت والبتيفور والغريبة». لك أن تتخيل كم المتعة التى كان يعيشها الصغار والكبار وهم يعدون «الصاجات» ويحملونها إلى الفرن وينتظرون حتى تتم تسويتها، ويستقبلونها برائحتها «المفحفحة» وهى خارجة من الفرن، ليحملوها إلى البيوت.. الزمان اختلف الآن، لم تعد الكثير من الأسر تصنع «كحك العيد»، الأغلبية تعتمد على شرائه جاهزًا، وأقلها ما زال يحتفظ بعادة صناعة الكعك فى البيوت.. ومن المضحك أن تجد أن الكعك بات يخضع مثل غيره من السلع لثقافة التقسيط.. ففى ظل ارتفاع أسعاره بات بعض المحلات يقدمه بالتقسيط حتى تتمكن الأسر التى لا تملك دفع ثمنه «كاش» من شرائه على أقساط!.. ولست أدرى لماذا لا تلجأ هذه الأسر- بدلًا من التورط فى أقساط- إلى صناعة الكعك يدويًا فى البيوت، مثلما كان يفعل آباؤهم وأجدادهم.. لقد ضاع إحساس البهجة بكعك العيد فى زخم الإقبال على شرائه جاهزًا، ومعه ضاع معنى العشرية الثانية من رمضان الكريم «عشرية الحلق».
حتى العشرة الخرق التى تتوجه فيها الأسرة إلى ملابس العيد كانت فى الماضى مختلفة.. فزمان كانت الملابس تفصيلًا.. أما اليوم فكل شىء فيها جاهز.. كان الصغار والكبار يتزاحمون على محلات وبيوت الترزية والخياطين و«الرفا» خلال أيام رمضان الأخيرة لتجهيز ملابس العيد، إما بتفصيل الجديد، أو «تأييف» القديم، أو «رفى» المواضع التالفة فى الملبس، استعدادًا لاستقبال أيام الفطر. كل شىء فى الماضى كان مقبولًا، والنفوس كانت ترضى بأقل القليل.. فاللبس الجديد عادة ما يذهب إلى الأخ الكبير، أما ملابسه القديمة فيتم «تأييفها» للأخ الأوسط، وملابس الأوسط «تؤيف» للأصغر وهكذا، وما يحتاج «الرفا» يذهب إليه، وهكذا يتجهز الجميع للعيد.. سعادة الصغار كانت لا توصف وهم يتابعون تفصيل ملابس العيد أو «تأييفها» عند الترزية، أو إصلاح الأحذية القديمة عند الإسكافية.. لحظات من النشوة كانت تنتابهم وهم يتابعون عمل المهرة من صنايعية مصر، ويستقبلون ملابسهم وهى تخرج من تحت أيديهم بهجة للناظرين.. طبعًا هذه العادات كلها اختفت.. فكل الملابس أصبحت جاهزة.. ومهنة الترزى أو الخياط أو «الرفا» انقرضت، ولم تعد كما كانت فى الماضى.
نحن نعيش الزمن الذى غلب فيه الاصطناع أحاسيس البهجة الحقيقية.