كبسولة فلسفية| محمد جاد الله يكتب: "التصوف".. الرياضة الروحية لتهذيب النفس
ظهرت بذور التصوف الأولى في نزعات الزهد القوية التي سادت في العالم الإسلامي في القرن الأول الهجري. ولعل ذلك يرجع لسببين بينهما لنا إجناتس جولد تسيهر (1850م – 1921م) – وهو مستشرق يهودي مجري – الأول، المبالغة في الشعور بالخطيئة، والثاني، الرعب الذي استولى على قلوب المسلمين من عقاب الله وعذاب الآخرة. ولكن هل هناك تعريف أو مفهوم يُحدد لنا المقصود بهذه الكلمة؟.
عزيزي القارئ.. «التصوف» Mysticism سلوك قوامه التقشف والزهد والتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل، لتزكو النفس وتسمو الروح، وهي حالة نفسية يشعر فيها المرء بأنه على اتصال بمبدأ أعلى. قال «الجرجاني» (1009م – 1078م): «التصوف هو الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا؛ فيرى حكمها من الباطن في الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال وهذا يتماهى مع قول «الجنيد» أن التصوف هو ترك الاختيار».
كما حدثنا الإمام العلامة عبد الوهاب الشعراني (1493م – 1565م) في الصفحة الرابعة من مؤلفه «الطبقات الكبرى» الجزء الأول عن علم التصوف، قائلًا: «هو، أي علم التصوف، علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة، والتصوف إنما هو زبده عمل العبد بأحكام الشريعة».
وقد ذهب القشيري (986م – 1072م) إلى أن كلمة «صوفي» قد استعملت قبل نهاية القرن الثاني الهجري، ومن المحتمل جدًا أن هذه الصفة التي تشير إلى استعمال لباس الصوف الذي يلبسه زهاد المسلمين، كما يقول ابن خلدون، ليُميزوا أنفسهم عن غيرهم ممن كانوا يلبسون فاخر الثياب. وأول من أُطلقت عليه هذه اللفظة هو أبو هاشم الكوفي.
كما أضاف لنا أبو الحسين النوري والمُلقب بـ« ابن البغوي أحمد» (840م – 907م)، أن الصوفية قوم صفت قلوبهم من كدورات (هموم ومتاعب) البشرية وآفات النفوس، وتحرَّرُوا من شهواتهم حتى صاروا في الصف الأول والدرجة العليا مع الحق، فإذا تركوا كل ما سوى الحق صاروا لا مالِكين ولا مَملوكين. فبعد ما قدمه لنا الجرجاني والإمام الشعراني والقشيري من تعريفات للتصوف، يجعلنا نتساءل عن الصلة التي تربط التصوف بما يسمى بـ«التجربة الدينية».
صديقي القارئ، يرتبط مفهوم التصوف ارتباطًا وثيقًا بمفهوم التجربة الدينية، وعُرفت التجربة الصوفية وفق أربع سمات: سرعة الزوال، السلبية، النوعية الفكرية، وعدم القابلية للوصف، وأخيرًا، وضع متبدل من الوعي، وبمعنى آخر كبت الاتصال المعرفي بالعالم العادي، وفقد التمييز المعتاد بين الذات والموضوع، ولنا أن نقول بمعنى آخر وهن أو فقد الإحساس بالذات.
أي أن التصوُّف عمل من أعمال القلوب لا أعمال الجوارح، ولا هو بلبس المرقَّعة والجلوس على السجادات، ولكنه مُخالفة النفس وإخماد صفات البشرية الذميمة فيها، أي العمل «منازَلة صفات الروحانية» والبعد عن ادعاء شيء من الأعمال أو الأحوال لها، والعمل الجدي الشاق على التخلُّق بالصفات الروحانية الطيبة، والتشبُّث ببواطن العلوم الدينية، مع الاتِّباع الدقيق لرسول لله صلى الله عليه وسلم.
ويطلق لفظ التصوف على جميع الاستعدادات الانفعالية والعقلية والخلقية المتصلة بالاتحاد الباطني المباشر بين التفكر البشري ومبدأ الوجود (الله). وفي جملة واحدة نجد أن أصل التصوف الإعراض عن الدنيا، والصبر، وترك التكلف، ونهاية العناء بالنفس والبقاء بالله والاتصال بحقيقة الحقائق. ويعتقد الصوفية أنه بوسع الإنسان بلوغ الحقيقة بغير طريق العقل، وأنه يستطيع أن يصدق بالشيء من دون أن تستبين له أسبابه العقلية، لأن الحكم التابع للإرادة والعاطفة.
وأخيرًا، على الرغم من إجماع علماء التصوف في كتبهم ما يقرب الألف من التعريفات، التي تضع له الحدود وترسم له المعالم وتفسره وتشرحه وتأصله. وكلها يدور حول تزكية القلوب؛ بمعنى تطهيرها من جميع ما يتعلق بها من الأسباب والعلائق الدنيوية، إلا أن أبلغ مفهوم نستطيع أن نختم به حديثنا هو ما قدمه لنا أبو الحسين النوري، قائلًا: «ليس التصوف رسمًا ولا علمًا، ولكنه خُلُق؛ لأنه لو كان رسمًا لحصل بالمجاهَدة، ولو كان علمًا لحصل بالتعليم، ولكنه تخلَّق بأخلاق الله».
اقرأ أيضًا..