زهور كرام: نحتاج بيئة رقمية حقيقية ليتحقق الأدب في المشهد الثقافي العربي (حوار)
يتنوع الإنتاج المعرفي للروائية والناقدة والاكاديمية المغربية، الأستاذة الدكتورة زهور كرام؛ بين الرواية والنقد وأن كانت الإنسانيات والرقميات تشغل حيزًا كبيرًا في مسارها الإبداعي وكذلك استشراف المستقبل؛ وهو ما يتجلى في مؤلفاتها "الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية"، و"الإنسانيات والرقميات في عصر ما بعد كورونا" و"الفكر التنويري.. المستقبلية عند المنهج" و"مهدي المنجرة"؛ وغيرها من الأعمال.
زهور كرام أكدت لـ"الدستور" أنه لكي يتحقق الأدب الرقمي تراكما في المشهد الثقافي العربي يحتاج الأمر إلى بيئة رقمية حقيقية، لافتة إلى أن شبه غياب الدراسات المستقبلية في أغلب الجامعات العربية، وأنه ليس هناك إذن قطيعة معرفية في تاريخ الآدب، وأن الأدب الرقمي لا يلغي المطبوع، وغيرها من الموضوعات.. في حديثنا معها نتطرق إلي العديد من القضايا والظواهر التي تتشكل في الأوساط الثقافية العربية ونتعرف إلي نظرتها للدراسات الخاصة بإستشراف المستقبل في عالمنا العربي؛ وإلي نص الحوار:
_ لديكِ مؤلفات وبحوث فى التنوير والأدب الرقمي.. هل فى رأيك الأدب المطبوع فى تراجع أمام الصورة الرقمية؟
لا يستقيم التفكير حول تحول الأدب وانتقاله إلى نظام جديد إلا بالانطلاق من نظرية الأدب باعتبارها مجمل التصورات والطروحات حول الأدب، وتاريخه وذاكرته، ومسار تحوله، وهي النظرية التي تُمكننا من إنتاج وعي معرفي بالأدب وطرق التفكير فيه وقراءته. ولذلك، نستطيع أن نُقر منذ البداية باستبعاد فكرة تجاوز الأدب الرقمي للأدب المطبوع، أو حدوث قطيعة في الأدب بانتقاله إلى النظام الرقمي. ذلك، لأن الأدب حسب نظرية الأدب هو خطاب رمزي متغير انسجاما مع تحول العصر والمجتمع، وظهور وسائط جديدة يستخدمها الإنسان، فتؤثر في إدراكاته حول ذاته والعالم من حوله من جهة، وتُمكنه من استثمار هذه الوسائط للتعبير بواسطتها، مادامت وسائط إدراكية وليست مجرد أدوات فارغة من كل دلالة من جهة أخرى.
إن الأدب الرقمي باعتباره الشكل التعبيري الرمزي الذي يستثمر التكنولوجيا بكل خدماتها لكي يتجلى رقميا باعتماد بعض الخصائص الرقمية وأولها اللغة البرمجية، هو تعبير عن العصر الرقمي الذي تُحدث ابتكاراته السريعة، وذكاؤه الاصطناعي، وخدماته التكنولوجية المتعددة تحولا جوهريا في نظام الحياة البشرية، خاصة مع العالم الافتراضي الذي بات يشكل أرضا جديدا للإنسان.
إن التفكير من داخل نظرية الأدب يمنحنا الوعي بالأدب من جهة باعتباره إنتاجا يتغذى بتطوره المفتوح على كل الاحتمالات، ولهذا لا ينضبط الأدب لتحديد معرفي واحد، إنما يشهد تاريخه تحديدات تُساير تحولاته ومتغيراته حسب المستجدات في أنظمته، ومن جهة أخرى فإن الأدب – بشكل عام – يتغذى من وضعياته، وينتقل من نظام إلى آخر دون القطيعة مع النظام السابق. فمثلا داخل الرواية نلتقي بالملحمة في التجربة الغربية، وبالمقامة في التجربة العربية، لذلك، عندما نستقبل اليوم نظاما مختلفا للأدب يتجلى رقميا، فلا يُقصد بذلك إعلان القطيعة مع تجارب الأدب الأخرى سواء في الأجناس الأدبية المعروفة، أو في الصيغة الورقية/ المطبوع. ذلك، لأن كل نظام جديد للأدب هو استجابة لتحول العصر، وظهور وسائط جديدة. وقد شكلت العلاقة الوظيفية بين الأدب الرقمي والأدب المطبوع خاصة في تجليه السردي محور كتابي النقدي" السرد الأدبي من التجريبي إلى الترابطي". إذ حاولت أن أجيب عن سؤال مرجعية الأدب الرقمي، وهل هو مجرد ظاهرة ستتلاشى، أم أدب جديد يتحقق في شرط رقمي؟. وقد وقفتُ عند الأدب التجريبي المطبوع باعتباره مرجعا للأدب الرقمي.
ليس هناك إذن قطيعة معرفية في تاريخ الآدب، يمكن الحديث عن انتقالات في أنظمة الأدب دون التفكير بمفهوم القطيعة. لهذا، فالأدب الرقمي لا يلغي المطبوع.
_ ماذا عن نظرتك للعلوم الإنسانية الرقمية فى عصر ما بعد كورونا فى الغرب والوطن العربي ودول المغرب؟
دعني أنطلق من موضوع اشتغال العلوم الإنسانية وهو الإنسان، وكيف شكل الإنسان جوهر التفكير في العلوم الإنسانية زمن النهضة الأوروبية، وكيف تطورت مناهج العلوم الإنسانية وهي تفكر في الإنسان في علاقته بتاريخه ونفسيته ومجتمعه وتقاليده ولغته وأشكال تعبيراته الرمزية. غير أن موقع الإنسان قد تغير اليوم مع العصر الرقمي، كما بات يعرف إشكالات عديدة، وتُطرح أمامه قضايا كثيرة، خاصة في علاقته بالواقع الافتراضي، واستخدامه للمنصات الرقمية ومواقع التواصل ومزاحمة الذكاء الاصطناعي لذكائه وعقله، وبداية منافسة الروبوت للإنسان فيما يخص فرص الشغل. وبالتالي، فإن العلوم الإنسانية مُطالبة اليوم بتغيير مناهجها وتصورها الفلسفي وأدوات تفكيرها، وإدخال العامل الرقمي في مناهجها وتصورها أصبح ضرورة مُلزِمة لكل مشتغل في العلوم الإنسانية. إذ، كيف يمكن لعلم الاجتماع اليوم أن يحلل الوضعيات والظواهر الاجتماعية بدون استحضار العامل الرقمي الذي يُعد من أكبر تحديات تحول المجتمع؟ وكيف يمكن تحليل نفسية الانسان دون الاهتمام بالرقمي باعتباره فاعلا جوهريا في تغيير نفسية الإنسان؟ وكيف نحلل لغة الأدب اليوم دون استحضار اللغة البرمجية التي يستخدمها كل مُستخدم للوسائط التكنولوجية ويُعبر من خلالها عن محتوى خاص؟.
لهذا، نحتاج إلى تطوير العلوم الإنسانية، ومناهجها، نظرا لتغير موقع الإنسان الذي يشكل موضوع العلوم الإنسانية. تحضر الإنسانيات الرقمية باعتبارها حقلا معرفيا يفكر في الإنسان في العصر الرقمي، من خلال علاقة وظيفية بين الإنسانيات والرقميات، وهى علاقة تفاعلية خدماتية وظيفية للحقلين معا. لا نقصد بهذه العلاقة خدمة العلوم الإنسانية للرقميات، وتأثير الرقميات في العلوم الإنسانية فقط، وهذا فعلٌ قائمٌ لا شك في ذلك، بحكم منطق العلاقة بين الحقلين، إنما التفكير في العلاقة هو التفكير في التحولات التي يعرفها الإنسان والمجتمع بحكم عامل التكنولوجيا من جهة، واشتغال العلوم الإنسانية على موضوعٍ(الإنسان/ المجتمع) وقد تغير موقعه ومفهومه وتفكيره. وهو أمرٌ يتعلق بالدرجة الأولى بتجديد الرؤية الفلسفية.
لا تتحقق هذه العلاقة إلا بتغيير العلوم الإنسانية لمناهجها ورؤيتها للإنسان والمجتمع والتاريخ. إن التفكير في الإنسانيات والرقميات هو تفكير في مسار التحول الذي تعرفه العلوم الإنسانية وهي تفكر في الإنسان وقد تغير وضعه وبيئته وتفكيره بفعل الفاعل التكنولوجي.
_ مؤخرًا اتجهت للأعمال الفكرية بكثافة.. هل تركت الأدب وعالم الرواية أم نعتبرها فترة هدنة؟
كتابة الرواية هي النبع الأول الذي اكتشفتُ فيه علاقتي بالكتابة، وعلاقتي بالرواية تتم بزمن لا أفتعل استحضاره بنوايا سابقة. أعيش حالة، تجعلني أمتلئ، بعدها أنْثُرُني روايةَ. لهذا أستمتع عندما أكتب الرواية لأني أكون الذات الأخرى خارج أقنعة اليومي والواقع والعمل والعلاقات والمحيط، وتأتي لتجعلني أجالس هذه الذات وأستنير بصفاء وجودها الرمزي. فأقترب بشفافية من جوهر المعنى الذي أبحث عنه. لم أتخل عن الرواية، ولم تتخل الرواية عني، لأن علاقتنا تتم خارج وصايا العقل والتحكم، عندما تأتيني خطوة، أتقدم نحوها بخطوتين حتى لا أتركها تنتظرني، لأن الانتظار في الإبداع يُنسف الحالة، ويُدمر جمرتها. أما علاقتي بالفكر والنقد والتحليل فذلك يدخل في إطار اشتغالي بالبحث العلمي داخل الجامعة وبالفعل الثقافي داخل المشهد الثقافي.
واعتبر المثقف وأيضا الباحث الأكاديمي مسؤول عن صياغة الأسئلة الجديدة وتحليل الظواهر المُستجدة، ومُرافقة المجتمع وهو يتحول، كما أن ذلك يدخل في وظيفتي كباحثة أكاديمية متخصصة في تحليل الخطاب، والدراسات السردية من المفروض أن أشتغل على تطوير التفكير النقدي ومرافقة مستجدات الأدب. هكذا أفهم مهنتي، وهكذا أمارسها من مدخل المسؤولية العلمية والثقافية. غير أني أعشق كل حقل علمي ومعرفي أشتغل فيه، حتى في دراساتي الفكرية والرقمية والنقدية أحرص على الاستمتاع بالتحليل وإنتاج الأفكار، بمعنى لا أشعر بأني أنتقل بصعوبة بين الحقول التي أشتغل فيها وهي الرواية والثقافة والفكر والنقد والرقميات والبحث العلمي. كل هذه الحقول تُشكل المعنى لوجودي. وكل كتاب أنشره أستفيد منه، وأشعر أنه يُطورني، ومن يقرأ كتبي سيلاحظ أن كتبي تتحول إلى مراجع في كتاباتي. والسبب في ذلك، أني لا أفكر في كتاباتي بمنطق الاستهلاك إنما بفكر الإنتاج الذي يتغذى من كل كتاباتي وأفكاري.
_ ماذا عن علم استشراف المستقبل فى عالمنا العربي ودول المغرب هل نفتقد تلك الرؤية الأستشرافية ؟
استشراف المستقبل له علاقة برؤية وطنية تنطلق من تمكين الحاضر بسبل التنمية، واستثمار مقومات الماضي وجعلها مُؤثرة بالإيجاب في الحاضر، عندها يًصبح المستقبل واضحا تنمويا. ونشاط ثقافة الدراسات المستقبلية في مجتمع ثقافي تعبير واضح عن الاهتمام بالمستقبل وقبله بالحاضر والماضي. لكن، مع الأسف نلاحظ شبه غياب الدراسات المستقبلية في أغلب الجامعات العربية، بل لا تشكل هذه الدراسات المستقبلية اهتماما علميا وثقافيا، لهذا، نرى الحاضر مُرتبك في مشروعه التنموي، يتجلى ذلك خاصة في التعليم والصحة وهما فاعلان جوهريان في تمكين الحاضر من أسس التنمية.
كثير من الدول العربية ما تزال تتخبط في منظومة تعليمية باتت متجاوزة في زمن يطرح تحديات خطيرة أمام الإنسان. عندما نتحدث اليوم عن منافسة الروبوت للإنسان فيما يخص فرص العمل، ونقرأ تقارير المنظمة الدولية للشغل التي تعلن عن مهن جديدة تتجاوز المهن الموجودة، فنحن نُسائل السياسات التعليمية في أغلب الدول العربية عن طبيعة التعليم الذي ستؤمن به المهن الجديد للأجيال في المستقبل؟
_ وماذا عن استشراف الأدب الرقمي فى المستقبل المنظور والقريب؟
لكي يتحقق الأدب الرقمي تراكما للتجارب في المشهد الثقافي العربي يحتاج الأمر إلى بيئة رقمية حقيقية وليس مجرد مظهر للمزايدة. التكنولوجيا واقعٌ عالمي يتميز بالسرعة في ابتكاراته، وتحديه للإنسان، والانخراط في هذا الواقع يتطلب رؤية واضحة، تجعل التكنولوجيا في خدمة الأفراد والمجتمع وجودة الحياة.
الأدب الرقمي هو تعبير رمزي عن الحياة في العصر الرقمي يتطور عندما تُصبح التكنولوجيا عاملا فاعلا في حياة الأفراد، وتُغير الإدراكات والتمثلات، وتطرح إشكالات جديدة، عندها يتحقق هذا الأدب لأن وجوده يُصبح تفعيلا لحالة التحول الاجتماعي والاقتصادي والنفسي مع ذلك، نستطيع أن نحتفظ ببعض الأمل في كون الأدب الرقمي بدأ يتجاوز حالة الرفض التي هيمنة مع بداية التعرف عليه، لكنه أصبح -إلى حد ما- مألوفا ويمكن الحديث عنه والدفاع عن شرعيته.
_ أخيرًا,, ماذا عن مؤلفاتهم واسهاماتك القريبة؟
لأني أشتغل بمشروع وليس بكتابات متفرقة، فعندما أنتهي من كتاب يفتح أمامي أسئلة جديدة تتحول إلى كتاب جديد. كل كتاب هو تطوير لأسئلة الكتاب السابق، ولهذا، هناك مشاريع كتب ورواية ومشاريع علمية وتقديم خبرات لفائدة مؤسسات عربية.