أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها
تجليات طارق إمام الجديدة، الصادرة عن دار الشروق..
وحده اللعب يفتح فضاء المغامرة ويعيد اكتشاف الأشياء، يعبث بالقوانين ويزلزلها بل ويسخر من ثباتها، اللعب ابن الخيال والفن، وحده اللعب لم تنفد بعد قدرته على إثارة الدهشة، واللعب يحتاج إلى خفة ظل وسماحة روح ومهارات خاصة تملك القدرة على قلقلة الكامن الآمن والمستقر من الأمور، واجتراح أقنعة الوقار المسالم. العالم دائما في حاجة ماسّة إلى طفل يلهو فيثير القلق وينقذه من الغرق في مستنقعات الملل والرتابة والاستسلام للمتاح، في هذه المجموعة الآسرة الملهمة، والتي تضمنت ١٢٥ ومضة، يتجاوز طارق إمام النوع الأدبي، بل وغيره من الفنون، حيث يجدلها جميعا في سبيكة واحدة، الدراما البصرية والسرد والشعر والتشكيل والموسيقى، كل مفردة تم عصرها، بل كل جملة وكل أقصوصة.
هنا مثلًا في "ألعاب الطفولة الخطرة" أنت أمام سوناتا موسيقية وقد جلس طارق إلى آلة البيانو يقسم ويعزف المقدمة أو الحركة الأولى التي تكون غالبا بطيئة "صيادان واحد من الأمام وواحد من الخلف يراوغ كي لا تناله الكرة، هكذا سيعرف الطفل بعد سنوات كيف ينحني أمام الرصاصة". العرض: نسمع فيه اللحن الأساسي بالسلم الأساسي. من مربع لآخر تحجل ساق وحيدة، تعبر خطوطا من الطباشير لأوطان خاوية، اللحن الثانوي المتباين والمغاير للحن الأساسي هو "فكرة غامضة عن الحدود، ستنتهي ببندقية مفرغة من طلقاتها على كتف مجند حدودي، رسموا وطنه بسلك شائك" اللحن الختامي. التفاعل: فيه المؤلف يعرض الألحان من دون ترتيب ينقلها بين السلالم، يجزئها ويفاعلها مع بعضها، إلى أن يصل بها إلى الذروة الموسيقية "واقفة على إطارها الخلفي، تمنح الدراجة فكرة أولية عن الطيران، تسقط الأجساد مع أول تصادم، تتشابك الأرجل والأيدي الصغيرة في الحفر، فيحصل الأطفال على فكرة نهائية عن الدفن" المرجع: فيه نسمع ألحان العرض "الأساسي، الثانوي، الختامي" بالسلم الأساسي للعمل، "كل دماء الحاضر تكونت في ألعاب الطفولة، حضانات سحيقة، يخرج منها الأجنة شائخين"
هنا في أقصوصة فاتنة السرد عنوانها "س وج النوافذ"، أنت أمام عمل درامي مكتمل العناصر، الأبطال والطبيعة والحدث الذي يتصاعد بظهور كل شخصية جديدة عمدت إلى التجريد، أستطيع أن أتخيل كم الحذف والتكثيف والجهد الذي تطلبه ذلك للتخلص من الزوائد ومكسبات الطعم يبدأ بسؤال "لماذا يغلق كارهو الطبيعة النوافذ؟ ويجيب، لأنهم يعتقدون، فيما يطلون على زفيرهم، أنهم حبسوا الهواء عن الأشجار"، ثم تتصاعد الأسئلة في وتيرة حدتها وإيقاعاتها وفلسفة كل كائن في التعامل مع الزمن، ليست النوافذ غير تُكَأة يستعملها طارق بدقة ومهارة في إزاحة الغطاء عن النفس البشرية وأزمتها مع محطات الوحش الرابض في الخارج أو الزمن، وحده طارق يترك نوافذه مشرعة لتصيد المستحيل، هو لا يرضخ أبدا للمكن.. أتركك عزيزي القارئ أمام هذا المقطع لربما تكتشف معي قدرة طارق على التربص والاحتشاد بكل خاطر وعابر، يحدث في الطبيعة أو خارجها، في الواقع أم في الخيال..
"وأخفيتُ بها النافذة الوحيدة في الجدار، النافذة التي ينبغي- في حالة شخص غيري- أن تكشفَ العالم. فعلتُ ذلك كي لا يتلصص العالمُ على لحظات ضعفي الأكثر قسوة: لحظة العودة من النوم، ولحظة العودة إليه".