«السردار».. صاحب الشخصية المركَّبة

سُمّى بصاحب العمائر فى مصر من كثرة ما أنشأ من أبنية. فقد بلغ عدد المساجد التى أنشأها وجددها وأُقيمت فيها الجمعة والجماعة ١٨ مسجدًا، بالإضافة إلى الزوايا والأسبلة وأحواض السقاية والمكاتب «المدارس» والقناطر. وكان له فى هندسة الأبنية وحسن وضع العمائر، كما يقول «الجبرتى» فى «عجائب الآثار»، ملكة عجيبة، ورغم ذلك فقد كان من أكثر الشخصيات قبولًا للرشوة وأخذًا للمال بغير حق، وأشدها ولعًا بتدبير المؤامرات وإثارة الفتن، إنه «عبدالرحمن بك كتخدا»، الذى يصنفه الكثيرون ضمن أبرز رواد المعمار فى مصر. 

امتاز عبدالرحمن كتخدا بشخصية مركّبة، تميل إلى البناء والإعمار، وتشييد ما ينفع الناس من مساجد وأسبلة وأحواض سقاية وغير ذلك، مثلما تميل إلى جمع المال من أى اتجاه، غير ناظر إلى الباب الذى جمعه منه، وهل هو حلال أم حرام، وتحقيق النفوذ، حتى ولو كان بتدبير المكائد والإيقاع بين أطراف الحكم، بصورة تهيئ له الحصول على مساحة السيطرة التى يريدها. وربما كان لظروف نشأته الأولى تأثير على تشكيل شخصيته على هذا النحو. فبعد وفاة أبيه «حسن جاويش القازدغلى» استولى أحد تلامذة الأب، وهو سليمان جاويش الجوخدار، على كل أملاكه وأمواله، ولم يعطِ للابن «عبدالرحمن» شيئًا، ثم تزوجت أمه من سليمان كتخدا، وكان لزوج الأم الدور الأهم فى حياته، وكان يعلم مدى حنق «عبدالرحمن» على سليمان جاويش، وقد حدث ومات الأخير عام ١١٥٢ هجرية، فما كان من زوج الأم إلا أن سعى ليتولى ابن زوجته مكان «سليمان» كقائد للجند «سردار»، واستجيب لطلب زوج الأم، وتولى عبدالرحمن السردارية، وأصبح «كتخدا» أى «مدبر الأمور التنفيذية» مصر.

أثبت «عبدالرحمن كتخدا» كفاءة واضحة فى الموقع التنفيذى الذى أصبح قائمًا عليه، واتجه إلى البناء والإعمار بصورة لم يسبقه إليها أحد. أنشأ جامع المغاربة والسبيل والكُتّاب الملحق به، ومسجدًا آخر ناحية باب الفتوح، وأنشأ وزاد فى مقصورة الجامع الأزهر مقدار النصف طولًا وعرضًا، وعمّر المشهد النفيسى ومسجده، وبنى أيضًا مشهد السيدة زينب بقناطر السباع، ومشهد السيدة سكينة بالخليفة، ومشهد السيدة عائشة بالقرب من باب القرافة، ومشهد أبى السعود الجارحى وغيرها. اهتم «عبدالرحمن» أيضًا بإنشاء أحواض الدواب، والمدارس، والمستشفيات، والقناطر وغيرها. واهتم الرجل اهتمامًا خاصًا بالفقراء والأرامل، وكان يخرج من بيته خلال أيام شهر رمضان العديد من القصاع الكبار المملوءة بالثريد المُسقى بمرق اللحم والسمن للفقراء المجتمعين، ويوزع اللحوم عليهم، وبعد أن يفرغ الفقير من فطوره، يمنحه رغيفين ونصف ونصفى فضة، لزوم السحور. 

ولكن فى مقابل هذا الجانب المتألق من شخصية عبدالرحمن كتخدا، يحكى «الجبرتى»، فى «عجائب الآثار»، عن جانب آخر مظلم فيها، يضعنا أمام رجل مولع بالرشوة والنهب، ويحكى فى هذا السياق أن «كتخدا» كان ممن يقبلون الرشوة بل ويطلبونها، وكثيرًا ما تحايل على أموال الأغنياء لمصادرتها لصالحه، وعلى سبيل المبالغة يذكر «الجبرتى» أن «عبدالرحمن» هو أول من جعل الرشوة وسرقة الميراث ومصادرة الأموال سُنة مقررة، وطريقة مسلوكة ليست منكرة. وقد ساعده المال الذى جناه بهذه الطرق الملتوية فى بناء دار سكن متألقة بحارة عابدين، وكانت، كما يحكى «الجبرتى»، من الدور العظيمة محكمة الوضع والإتقان، لا يماثلها دار بمصر فى حسنها وزخرفة مجالسها، وما بها من النقوش والرخام والقيشانى، وغرس بداخله بستانًا بديعًا بداخله قاعة متسعة مربعة. هذا الوصف يدل على الرخاء الاقتصادى الذى عاشه «عبدالرحمن» بالمال الذى جمعه بغير حقه، وهو يضعك أمام الطبيعة المركّبة لشخصية الكتخدا، فقد كان الرجل بناءًً عظيمًا ولا شك، بنى من العمائر التى تخلط ما بين الطرازين المملوكى والعثمانى فى المعمار، ما لا ينافسه فيه أحد، وكل ما بناه من مساجد أو مدارس أو مستشفيات كانت تصب فى مصلحة عموم الناس، لكنه لم ينسَ صالحه الشخصى وهو يبنى، فأسس دارًا لا تضاهيها دار فى بر مصر. فى كل الأحوال لا نستطيع أن نفترض فى أحد المثالية المطلقة، والإنسان ضعيف، إلا من عصم الله.

من السيئات الأخرى التى ظهرت فى شخصية «عبدالرحمن كتخدا» عشقه المؤامرات، وكان يديرها بالأساس لحساب «على بك الكبير». ما أكثر ما أوقع بين الأمراء وألقى بينهم العداوة، ليضعف شوكتهم، مقابل تقوية شوكة «على بك». وقد اكتوى «عبدالرحمن» فى الختام بالنار التى أشعلها، وبعد أن فرغ «على بك» من خصومه من الأمراء، انقلب على «عبدالرحمن»، وعضّه بنابه، وقرر نفيه خارج مصر، وأبعده عن وطنه، فلم يجد عند ذلك من يدافع عنه، وأقام فى مكة غريبًا طريدًا. كان مأخذ «عبدالرحمن كتخدا» فيما تصور أنه مأمنه، فى «على بك الكبير»، الرجل الذى تآمر على الجميع لحسابه الخاص، ثم نفى «عبدالرحمن» إلى الحجاز، ليمكث فيها ١٢ سنة متصلة، وبعد كل هذه المدة قرر أمير الحج إعادته معه إلى مصر، وكان ذلك عام ١٧٧٦ ميلادية «١١٩٠ هجرية»، فدخل مصر وهو شيخ هرم متضعضع، أكلت الغربة والكبر صحته، وأقام فى بيته بعد العودة ١١ يومًا فقط، ووافته المنية بعدها، وتم تشييع جنازته فى مشهد حافل، كما يحكى «الجبرتى»، حضره العلماء، والأمراء، والتجار، ومؤذنو المساجد، وأولاد المكاتب التى أنشأها، ورتب لهم فيها الكساوى والمعاليم، وصلّوا عليه فى الأزهر، ودفن بالمدفن الذى أعده لنفسه بالأزهر عند الباب القبلى.