«التلميذ» يطيح بـ«الأستاذ»
غدر بالجميع.. ثم غدر به ذراعه اليمنى.. إنه على بك الكبير الرجل الذى وصفه «الجبرتى» فى «عجائب الآثار» بالأمير المملوكى الذى وجد فى نفسه الجدارة، ليس فقط بالجلوس على كرسى ولاية مصر، بل بالجلوس على سرير السلطنة فى إسطنبول. يقول الجبرتى: «كان على بك قوى المراس، شديد الشكيمة، عظيم الهمة، لا يرضى لنفسه دون السلطنة العظمى والرياسة الكبرى».. تمتع الرجل بثقة عالية فى النفس، وداخله يقين لا يهتز بأنه قادر على الوصول إلى السلطة والسلطنة، بالاعتماد على يده، وكان يباهى قائلًا: «أنا لا أتقلد الإمارة إلا بسيفى لا بمعونة أحد»، لذلك لم يجد غضاضة فى التخلص من كل القيادات الوسيطة التى تعمل معه، فتخلص من صالح بك القاسمى، وحسين بك كشكش، وحسن كتخدا الشعراوى، وسليمان بك الشابورى، وغيرهم.. الوحيد الذى ظل معه حتى النهاية، وجاءت نهاية «الكبير» على يديه، هو تلميذه وصديقه المقرب «محمد بك أبوالدهب».
مثّل «أبوالدهب» الذراع اليمنى لعلى بك، فهو من ساعده على القضاء على أشد أعدائه خطورة، وعلى رأسهم شيخ العرب همام الذى استقل بدولة الصعيد، ولعب الدور الأهم فى تصفية تجربة الشيخ الاستقلالية، حين تمكن من الانتصار عليه بعد معركة شرسة خاضها الطرفان، انتهت بتشتت جيش شيخ العرب، ليموت بعدها حزنًا وكمدًا، وتدين كل أراضى البلاد لسلطان على بك. الصداقة التى جمعت بين الأميرين كانت قائمة بالأساس على المصالح، فقد كان كل منهما يرى فى الآخر أداة يتوجب عليه استخدامها، فعلى بك يرى فى «أبى الدهب» أداة عسكرية ماهرة وقادرة على ردع كل من يعاكسونه على الحكم، سواءً كانوا مماليك أو عربانًا أو غيرهما، وأبوالدهب يرى فى «على» بوابة استطاع أن ينفذ منها إلى موقع الرجل الثانى فى الدولة، لكنه كان متنبهًا، بما عرف عنه من ذكاء، إلى أن غدرة على بك بمجموعة البكوات، والتى أفسحت له الطريق، حتى يصل إلى هذا الموقع، ستصيبه هو الآخر فى لحظة.
بعد أن دان له حكم مصر من قبليها إلى بحريها، عمد «على بك» إلى إبعاد الأمراء وكبار القادة العسكريين المحيطين به، وعلى رأسهم محمد بك أبوالدهب خارج مصر، ودفع بهم إلى الحرب فى مواقع عدة، وخصوصًا فى الشام. كان «أبوالدهب» يدرك أن هدف «الكبير» من ذلك هو إخلاء القاهرة من أى منافسين له، وفى الوقت نفسه إنجاز فتوحات تؤدى إلى توسيع ملكه، فإن لم يكن وكانت الهزيمة فلا بأس، فقد تؤدى إلى مقتل قائد أو اثنين أو أكثر من منافسيه. ضاق الأمراء بأسلوب على بك معهم، لكن أغلبهم كان أجبن من أن يواجهه بضيقه. الوحيد الذى امتلك ذلك هو «محمد أبوالدهب». أرسل «على بك» إلى «أبى الدهب» يأمره بعدم العودة إلى مصر، وفتح ما وراء الشام من مدن وأمصار، بحيث لا يتوقف عن الفتح إلا مضطرًا. وعندما وصلت الرسالة إلى «أبى الدهب» اختلى بالأمراء الثقات وشاورهم فى الأمر، تحدث الأمراء أولًا فعبروا عن تعبهم وضجرهم من مواصلة القتال وإحساسهم أن على بك يريد إبعادهم وزعيمهم عن القاهرة، ثم تحدث «أبوالدهب» فوافقهم الرأى، وتعاهد الجميع على عصيان الأوامر، والتوقف عن مواصلة القتال، والعودة إلى مصر المحروسة.
وصلت معلومات بما دار فى الجلسة إلى «على بك»، ثم بوغت بخبر عودة «أبى الدهب» فأرسل إليه فرقة اغتيالات، لكنه تمكن من الإفلات منها، وفر إلى جرجا بصعيد مصر، حيث يحكم صديقه وتلميذه «أيوب بك». وعندما علم «على بك» بذلك بعث بمرسال إلى «أيوب» يأمره بقتل «أبى الدهب»، لكن عيون وجواسيس الأخير تمكنت من القبض على رسول «الكبير»، وفضت الرسالة التى معه، وأفضت بمحتواها إلى «أبى الدهب»، فما كان منه إلا أن أمر أتباعه بترك الرسول يمر بالرسالة إلى «أيوب بك»، على أن يخبرهم برده عليها. وكان رد «أيوب» على رسالة «الكبير» بالسمع والطاعة، ووعد بقتل «محمد بك». علم الأخير بما حدث، فما كان منه إلا أن اجتمع بأيوب بك وسأله فى أمر الرسالة التى وصلته ورده عليها، فكذب عليه الأخير، وأقسم بقطع يده ولسانه إذا كان يريد به سوءًا. فأجابه «أبوالدهب» قائلًا: حكمت على نفسك، وكشف له كذبه عليه، وأمر أتباعه بالقبض على أيوب بك واصطحابه فى مركب –ومعهم المشاعلى- وقطع يده ولسانه. نفذ الأمر، وقام المشاعلى بقطع يد أيوب، ثم شبك صنارة فى لسانه يريد قطعه، ففر الأخير منهم وقفز فى الماء ولقى حتفه. بعدها زحف «أبوالدهب نحو القاهرة للقضاء على حكم «الكبير». نشبت معركة حامية بين الطرفين انتهت بهزيمة على بك، وفراره إلى الشام.
لم يكن من السهل على «على بك»، بتركيبته الشخصية الصلبة والعنيدة، أن يقبل بالهزيمة من تلميذه، فأخذ يعد العدة من الشام لتكوين جيش يعود به إلى مصر، ويطيح بمحمد بك أبوالدهب الذى تربع على كرسى مشيخة البلد من بعده، واستخدم فى ذلك مهارته فى جمع الأتباع والأنصار وشراء المماليك، وما إن أحس باكتمال الاستعدادات المطلوبة حتى تحرك إلى مصر، ووصل إلى الصالحية، وهناك كان «محمد بك» ومماليكه وعساكره فى انتظار غريمه، وإن هى إلا ساعات حتى انكسر جيش «على بك»، بل وتم أسره، بعد أن أصيب فى المعركة، وحُمل على تخت إلى داره بـ«درب عبدالحق»، ومكث فيها ٧ أيام، ثم أعلن عن وفاته. ويقول «الجبرتى»: «مات على بك الكبير والله أعلم بكيفية موته». والعبارة -كما تلاحظ- تحمل إشارة مبطنة إلى أن «الكبير» لم يمت موتة طبيعية، وريما يكون قد اغتيل بطريقة أو بأخرى.
بعد أن قتل الصديق التلميذ صديقه الأستاذ جهز لجنازة مهيبة له، تم تغسيل وتكفين على بك الكبير، وخرجت جنازته فى مشهد حافل، وصلى المشيعون عليه بمصلى المؤمنين، ودفن بالقرافة الصغرى إلى جوار أستاذه إبراهيم كتخدا.