شارع قديم «2»
كان أحد رجال رشيدة قد شاهد العرض المسرحى الذى قام رحيم بتأليفه وإخراجه، هكذا بدأت حديثها لرحيم مهنئة إياه ثم عرضت عليه مسرح مركز شباب القلعة، وأضافت: أنت مكلف منذ الآن بكتابة وتقديم عرض مسرحى يليق بحضور السيدة الأولى وبعض الوزراء، تريث رحيم قليلًا ثم أبدى موافقة مبدئية متعللًا بثقل المهمة، لكنه خاطبها: هذا تشريف لا تكليف سأصنع ما فى وسعى، صافحها وانصرف، حين عاد كان الأب ساهرًا فى انتظاره، طمأنه رحيم، لكن أيوب تحفظ كثيرًا، محذرًا إياه من مغبة الانزلاق فى تسييس الفن، لم يكن خفيًا أن الحاجة رشيدة، عضو مجلس الشعب عن دائرته السكنية، حين فرغ رحيم من كتابة النص قام بعرضه عليها فرحبت بما جاء فيه باستثناء بعض مشاهد طلبت تعديلها: نريد احتفالية خالصة، أما المشكلات التى سقتها سنعمل معًا فى حلها، نظر فى ارتياب فأعقبت: السياسة مكانها الحزب وناولته استمارة عضوية، لكنه فاجأها: تصطرع فى ذهنى عشرات الأحزاب فكيف لفنان أن يتصاغر لعضوية فى حزب، ضحكت وربتت على كتفه: ينتظرك مستقبل كبير يا ولد، وأضافت: هل لك طلبات؟، أحلامك أوامر، وإليك خبر سعيد: لقد رتبت لك موعدًا مع موسيقار الأجيال، لم يخف رحيم سعادته بما سمع رغم دهشته، حتى إنه لا يذكر كيف انتهى اللقاء حينها، فقد انصرف ذهنه فى إعداد أغنية تناسب موسيقار الأجيال، وهل هناك حلم أكبر من ذلك؟، التزم رحيم بتقديم العرض فى موعده ولم يدخر جهدًا فى الاعتماد على الإيحاءات والإحالات الرمزية كى يرضى غروره، وانتهى أيضًا من كتابة أغنية: الذكرى بتنده على ماضى كان قلبى قرب ينساه وبتملالى الكاس الفاضى وتقوللى اشرب واملاه، أغنية تصورها تليق بأم كلثوم وعبدالوهاب، لكن الأخير طلب إليه أن يحذف مفردة «الكأس» من النص فعلق رجب: أشرب لوحدى كاس فاضى دايمًا بافكر فيه مليان، قال موسيقار الأجيال: قديما كان مسموحًا بمثل هذه المفردات، وأضاف: الفن الآن ينتج بمواصفات مختلفة، ثم يا ابنى ليس عيبًا أن نُغيّر بعض الكلمات، عشرات الشعراء الكبار يمتثلون، طوى رحيم أوراقه وانصرف معتذرًا عن أى تعديلات وبقيت كلماته حبيسة الأدراج، عبدالوهاب الذى ترأس فيما بعد لجنة لمكافحة هبوط الأغنية لم يستطع بكل سطوته أن يقف أمام رياح الذائقة الوافدة، أرسلت رشيدة فى طلبه مرة أخرى وشددت عليه أن يأتى إلى منزلها بصحبة فريقه المسرحى، إضافة إلى ما تيسر من أصدقاء، حين وصل الجمع كان باستقبالهم أحد الضباط، رحب بهم ثم دلف لداخل البيت فصعد وهبط بهم سراديب ودهاليز حتى وصلوا لقاعة اجتماعات كبيرة احتلوا مقاعدها حول منضدة دائرية، لم يكن أحد يعرف ما ينتظرهم هناك، أغلب الظن نحن بصدد عرض مسرحى جديد، هكذا خمن رحيم قبل أن ينفتح باب القاعة عن الحاجة رشيدة بصحبتها بعض أفراد يحملون صناديق وضعوها بجوار الفريق وانصرفوا، ثم وضعت أمامهم أوراقًا ملونة وأعطت كل منهم قلمًا وأمرتهم بأن يضعوا علامة «موافق» أمام رمزها الانتخابى ومن ثم يقومون بطيها وإعادتها للصناديق، لا تكف الأيام عن اختبارنا، قال رحيم وأضاف: أى ورطة تلك وكيف لنا النجاة منها؟، احتكم لرجاحة العقل وأشار لزملائه بإنهاء المهمة، حين فرغوا تمامًا شكرتهم الحاجة رشيدة مهنئة إياهم: لقد شاركتم فى مهمة وطنية سيحفظها التاريخ لكم، يا له من مفهوم غريب لمعنى الوطنية، الحقيقة أننا شاركنا لتونا فى تزوير إرادة الناس، لتكن قطيعة صادقة مع هذه السيدة ومع هذا الزيف، ما هى إلا أيام حتى عاقبتهم بما لها من نفوذ فحوّلت حديقة الساعة الدائرية التى تتوسط ميدان الخليفة إلى إخطبوط من رخام حال دون استمرارهم فى تقديم عروضهم المسرحية، الحديقة التى طالما اقتسم أحد مقاعدها مع محمد عزب فى آخر كل ليل يتحاوران حول الشعر والأدب ويراقبان السيارات وهى تتدحرج كـ«رولمان البلى» فى الممر الفاصل بين مسجدى الرفاعى والسلطان حسن، ثم وضعت رشيدة حراسًا على حوش الباشا، أحد مدافن أسرة محمد على، الذى يقع خلف مسجد الإمام الشافعى وحتى تنهى تمامًا علاقتهم بأنشطتهم الأدبية والمسرحية أغلقت فى وجوههم مركز شباب القلعة، توقف رحيم بعدها تمامًا عن كتابة الأغانى ونذر جل طاقته للقصيدة، كان يحسب أيام الأسبوع بندوات الشعر، وصال وجال وراء أحلامه حاملًا حقيبته التى يسميها «غرفة المعيشة» متنقلًا فى أرجاء المعمورة، كان يستقل أقرب قطار من باب الحديد ويهبط منه إلى نجوع وكفور وقرى من أقصاها إلى أقصاها يغنى ويرقص فى أفراح لا يعرف أصحابها ويؤاجر فى جنازات لا يعرف أهلها، ويقضى وقته فى مسامر يتعرف خلالها إلى أنواع شتى من تراث وغناء شعبى، يقول: «حد فيكم راح آخرها أو عرف أولها فين» صار يمتلك ألف بيت وهو الذى لا بيت له، نعم فقد ترك بيته بعد مشاجرة عنيفة مع شقيقه مهاب ولم يشأ أن تتطور لاشتباك بالأيدى، حمل ما تيسر من ثياب ومضى بقدمين متورمتين جراء إصابته المبكرة بالروماتيد الذى شوه أطرافه حين عمل لبعض الوقت بتصنيع ورق البردى، لم يكن يعرف أين سيذهب وفى أى مكان سينام، فى البداية لجأ لمقهى موسى عطية بحى عابدين، حيث يلتقى بعض أصدقائه ويقضى سهرته حتى ينصرفوا وهناك ينام لبعض الوقت إلى أن يوقظه عمال وردية الصباح ويبدأ فى حل لغز يوم جديد، لما اعترض صاحب المقهى وجد رجب ضالته فى أتوبيس المطار، يستقله من أول الخط وينام ذهابًا وعودة حتى يعنفه عامل التذاكر، ثم تعرف لرفقة أدباء نزحوا من الأقاليم واقتسم معهم إيجار شقة بحى النزهة الجديدة ومنه إلى غرفة أعلى سطوح بناية بحى مصر القديمة ثم إلى منزل تقطنه أرملة خلفها زوجها وحيدة، كانت تتحدث طوال اليوم إلى طيوف وسرعان ما عاد كما كان بلا حوائط كأنما يضعه القدر فى اختبار جديد، يقول: هذا الليل كاذب، يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة دون أن أصادف لصًا يقتسم معى سجائره ووحدته ويودعنى بمودة لا يدركها قديس ولا تعثرت خطاى بطفل مشرد ينام على رصيف المذلة ولا يجرؤ على حلم بحضن أبيه يحمله على كتفيه فيلمس النجوم أو رائحة أمه تفوح من صحن محبتها ولا صادفت مومس جائعة ولم يتبق من مجد أنوثتها غير «طرقعة» علكتها أو مجذوب أعيته المحبة فقايض أحبته بالمسابح وعشيقاته بالعطور وأحلامه بالبخور.