إيمان خطاب تكتب: ياسر نبايل يخترق النفس الإنسانية بـ"مذنب"
إنها بقعة الضوء التي سقطت فاحترقت بالنور..!" أن نفكر يعني أن نتألم هكذا يُطلق الفنان "ياسر نبايل" قذيفته الجديدة على هيئة( مُذَّنب) او ربما يقذف بهذا(المُذَّنب ) لكي يتشكل على هيئة مَعرض ! بجاليري ياسين بالزمالك.
حيث ندلف من الباب المثقوب إلى القاعة الفسيحة للجاليري، لتستقبلنا رائحة الدخان المتفحم المجاور للنور، أنه الدمار الذى أصاب قماش اللوحة المُهترئ داخل البناء الصلب للوحة..التي تعتمد على تضاد النور والرماد،الضوء، والظلام، ففي الفراغ الأبيض تسبح ثقوب الحريق في مواجهة الكُتلة الساقطة لجسد امرأة مُتفحمة في الأسفل هذا التضاد الذى يُصَور صراع النفس البشرية، التى تتأرجح بين جميع الأضداد.فى ذات الوقت وفي ذات العقل..فعندما يسقط المُذَّنب الطائر كالشيطان من السماء يحترق كل شيء، وتهتز المدينة بمن عليها، وتنصهر المعادن كالنفوس ويختلط اللحم البشري بالأفكار والجسد بالرماد والنار والنور.
على لسان بيكاسو كتب كمال الملاخ "و مع ذلك فلقد قررت الصمود والانتصار، والخروج إلى النور والضياء، وإلى الأمل. انى أملك حيوية الخصب، إني سأزرع أرضي، سأرعى نبتي، سأزدهر مع ربيع عمري، حياتي ستكون خصبة نابته لي وللآخرين، سأترك بصمة على هذا القرن الذى بدأته البشرية " ولم أجد أقرب من هذا النص الذي يعبر عن فكرة معرض (مُذَّنب ) للفنان" ياسر نبايل "، والذى يعيش بالفعل بين عالمين، احدهما داخلي شرقي الملامح، وآخر خارجي غربي الرؤي والتوجهات والممارسات.
لقد أَقدم الفنان على رسم نفسه في أكثر من لوحة، جالسا يفكر ويتألم في وحدته الصاخبة جدًا من حوله!...حتى ليبدو وكأن جسده يحترق تمامًا وتَملىء نفسه الثقوب كما تَملأ أجساد البشر والبنايات في الحروب.
ليجعلنا هذا المعرض نتساءل مع "نبايل" إلى ماذا يُفضي هذا الألم الناتج عن اختراق المذنب الساقط علينا من الأعلى للعقول كما الأجساد ؟!..وليخترق كل الأبواب المُحصنة للنفس البشرية فيُعريها و يكشفها على حقيقتها، ولنكتسي جميعًا بالعار ولتشتعل أنوار الحقيقة كشعلة مرتبكة من النور والنار.
و هكذا أستخدم "ياسر نبايل " الرموز، تلك التي تبرز الحرب النفسية بين الانسان وذاته، محاولًا تصوير الصراعات الداخلية النفسية الناجمة على فعل التفكير ومواجهة الحقيقية، من خلال مجموعة من اللوحات التى تشكل مزيجًا من التعبيرية والرمزية والسوريالية ايضًا. حيث تُصور جلسة الرجل المفكر الذى يعانى من فرط التفكير والمأزق الفكري والوجودي، ثم في لوحة أخرى تطل علينا.. نظرة التحدي للفنان نفسه في مواجهة المتلقي والتي تبدو كنظرة اتهام او عتاب ما، أو ربما استغاثة من غريق يحترق.
يحاصر الفنان هذه العين الثاقبة داخل إطار وكأنها هدف لقناص ما، قد يكون هذا القناص هو عين المشاهد نفسها التي تصوب عليه وتوجه له إتهام غير مُعلن !
ثم ينتقل إلى لوحات زيتية أخرى يستعين فيها برموز للصراعات الإنسانية خارج الإطار المنغلق للنفس الإنسانية الواحدة إنها صراعات وحروب الجماعات والشعوب والافكار، والأيديولوجيات سواء سياسية أو دينية، او اجتماعية واقتصادية مختلفة ومتناحرة والاجتماعية، يفجرها هذا (المُذَّنب) الشيطان من حين إلى آخر..
بل أنه يمثل الشيطان نفسه (كما أطلق عليه الفنان في تقديمه لمعرضه) الذى هبط من السماء لكى يضع الإنسان فى أتون جحيم الاختبار، وهكذا نشأ الصراع الداخلي والخارجي معًا، بين كل إنسان ونفسه وبين أي إنسان وإنسان آخر.
يلجأ "نبايل" في هذا المعرض إلى أساليب عِده فى التعبير عن فكرته، حيث يتميز أسلوبه بالحرية وروح الاسكتش والعفوية المقصودة في بعض اللوحات مما اضفى عليها صدقا، كما انه يتميز ايضًا بالتنوع في اختيار الوسائط للتعبير عن أفكاره الفلسفية على سبيل المثال..(الكولاج ) لبعض الصحف الأجنبية، و التي تمثل بالطبع الثقافة والإعلام والفلسفة الغربية بشكل عام..و هي الثقافة التي تحيط بالفنان في مهجره حيث يقيم ..كما أنه أستعان ايضًا ببعض الكلمات الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية ) ..المكتوبة على سطح اللوحة بخط يده pleas )" تعني من فضلك، (the sky is not real" السماء ليست حقيقية ( turbulance) وتعني الاضطراب.
اما اللوحات التي تجسد عمق المأساة وحجم الضرر ووالدمار الذي تسبب فيه هذا (المُذَّنب) المُحرض على التفكير والاعتراض والأحتراق الذاتي والجماعي، هى اللو حات التى تحتوى على ثقوب كبيرة ناتجة عن أحتراق قماش اللوحة ذاتها موزعة بشكل يبدو عشوائي، و لكنها مدروسة من حيث اختيار موقعها على السطح البكر الأبيض للقماش !
كذلك يظهر هذا التنوع فى أستخدامه للعرض فى الفراغ. من خلال عرض لباب يَحوي ثقوبًا ايضًا، ناتجة عن قذائف نارية..كوقائع حقيقية صادمة لا يَحُدها أبواب أو حواجز..من فرط شدتها تُحدث ثقوبًا من نور ونار ودمار !
و نأتي إلى اللوحة الفريسك الكبيرة التى يبلغ طولها أكثر من ٥٠٠ متر..تمتد على حائط كامل و تصور (عالمان)كما اسماها نبايل ..عالم من الصراع الأبدي بين قوتين..على الجانب اليمين يصور قوى جبانة تختبىء داخل ووراء سترات عسكرية متراصة كطبقات فوق بعضها البعض..وعلى الجانب الأيسر من اللوحة يصور أفراد من الرجال العراه المتفرقين العُزل...مجردين من السلاح او اى وسيلة للهجوم او الدفاع ..مجردين من الكرامة مأذومين.. كل منهم يعيش مأساته بشكل فردى سابحين داخل سماء ليست حقيقية كما كتب عليها نبايل بيده ..سماء وردية..لا ندرى هل هى بقايا لحم بشرى او دماء مختلطة بدخان سائر فى الاجواء أم هى بقايا (المُذَّنب )الذى هبط وسقط وأحترق .. فأبرق بالنور والنار ! ويفصل بين هذين (العالمين ) مثلتان باللو ن الأحمر..يشير كل منهما إلى أتجاه.. يمثلان سهم صاعد وآخر هابط.
وهكذا يدخلنا ياسر نبايل فى قلب الصراع الدائر..فى قلبه وعقله وكل حواسه.. كانعكاس لواقع إنسانى ضاغط ومرير وربما متوحش ودموى وسريالي الى أبعد حد
يحضرني الآن هذا الحديث من نفس كتاب (المليونير الصعلوك ) لكمال الملاخ متحدثًا على لسان بيكاسو كما تخيله ...و لكنى أرى أن هذا النص يكاد يتطابق مع فكر وشخصية (نبايل ) الفنية والإنسانية فى هذا المعرض مع ما كتبه كمال الملاخ:"كنت أرى الدنيا مأساة ونحن فيها نُهرج على حبل مُعَلق فوق محيط..فيه وحوش وأسماك غريبة جائعة تَلتهم من يقع.وما أكثر الذين وقعوا.وما أقل الذين صمدوا.
إني من بلد ريفي له تقاليد .. غني بالروحانيات.ولكني أصطدمت هنا وسط زحام العاصمة الجميلة..بكل قبح الناس. تلتهم الناس أو تكاد..إننا نعيش فى عالم الجوع بلا طعام.مبادىء مرسومة بلا أخلاق.جوع مادي أيضا من البرد يأكلني.يعتصر أحشائي كالزخرفة والبرد يرعشني.إننا أجساد بلا أرواح.دُمىَ وعرائس وخيالات قصاصات من ورق..تُحَرِكها أصابع تَذرها نفحات هواء..نتلاشى مع الكون إلى العدم."