لا يمكن حل مشكلة غزة.. دون مصر
جرت مفاوضات وقف إطلاق النار فى غزة بين إسرائيل وحماس هذه المرة فى الدوحة، والتى أفضت إلى دخول الاتفاق حيز التنفيذ عند الساعة الثامنة والنصف من صباح هذا اليوم، الأحد التاسع عشر من يناير الحالى، قبل أربع وعشرين ساعة من تولى الرئيس الأمريكى المُنتخب، دونالد ترامب، مهام منصبه فى البيت الأبيض، كما طلب وحث الطرفين على بذل الجهود لتحقيق ذلك الاتفاق، قبل يوم تنصيبه، لتدخل المنطقة فى هدوء نسبى وحذر، بعد نحو ستة عشر شهرًا من قتل الإسرائيليين للفلسطينيين فى غزة، وتحويل القطاع إلى ركام من الأحجار، تستحيل فيه الحياة.
استمرت المفاوضات ردحًا طويلًا من الزمن حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وبذلت مصر فيها جهودًا مُضنية للحفاظ على الحقوق الفلسطينية، وتحقيق ما يصبو إليه الشعب الفلسطينى من وقف القتل وعودة الأهالى إلى بيوتهم المُهدمة، ووصول المساعدات الإنسانية بالقدر الذى يفى بحاجات الناس، الذين عانوا الجوع والعطش، إلى جانب فقدانهم الأمان والسلام، الأمر الذى دعا الرئيس الأمريكى الحالى، جو بايدن إلى توجيه الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسى، على جهود الوساطة المكثفة التى تبذلها مصر، للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى القطاع، وتبادل الأسرى والمحتجزين، وأكد أن هذه الصفقة لم تكن لتتحقق أبدًا، لولا الدور الأساسى والتاريخى لمصر فى الشرق الأوسط.
ومع هذا، يخرج أذناب أهل الشر، ليشككوا فى الدور المصرى فى هذا الاتفاق التاريخى، الذى قلب الكيان الصهيونى رأسًا على عقب!!.
وإذا كان كلامنا مشكوكًا فيه، فنعم لأننا أبناء مصر، وإذا كان كلام بايدن مجاملة للرئيس المصرى، فليس هناك ما يضطر رئيس الولايات المتحدة لفعل ذلك.. لكن ما بال هؤلاء السابلة والغوغاء، فيما قاله جون ألترمان، نائب الرئيس الأقدم، وكرسى بريجنسكى للأمن العالمى والجيوستراتيجى، ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ودانيال بايمان، الزميل الأقدم فى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وأستاذ فى كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون، قبل أكثر من عام، من أنه «لا يمكن للعالم أن يفك اشتباك الحرب بين إسرائيل وحماس دون مصر» The World Can’t Solve the Israel-Hamas War Without Egypt.
إذ يقول الكاتبان فى «Foreign Policy»، أنه فى حين أن إسرائيل وحماس لا يزالان عالقين فى صراع، تتحول الأضواء الدبلوماسية نحو مصر.. قبل الحرب، كانت مصر مهمشة بشكل متزايد فى السياسة العربية، بعد أحداث يناير 2011 وتداعياتها، وتعانى من اقتصاد متعثر.. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بغزة، فإن مصر لديها مصالح حاسمة بالإضافة إلى نفوذ قوى.. لذلك، على الرغم من أنها ستثبت أنها شريك صعب للولايات المتحدة وإسرائيل والعديد من حلفائها الغربيين، إلا أن مصر كانت وستظل لاعبًا أساسيًا فى الرد الدولى على الحرب.
إن تاريخ مصر مع حماس محفوف بالمخاطر.. وللجيش المصرى اهتمام دائم بقطاع غزة، منذ احتلاله فى البداية لما يقرب من عقدين من الزمن بعد قيام إسرائيل عام 1948، وظل متناغمًا تماما مع البيئة الأمنية فى المنطقة.. ومثل العديد من أسلافه، فإن الرئيس عبد الفتاح السيسى، متحفظ بشدة على حماس، التى انبثقت من حركة الإخوان المسلمين المحظورة فى كثير من الأحيان.. ومع ذلك، فإن القادة المصريين لديهم أيضًا تاريخ طويل من الانخراط مع حماس، لا سيما بعد أن أصبحت الحاكم الفعلى لغزة، بعد الاستيلاء على السلطة عام 2007..
فى الأزمات السابقة، عملت مصر كمحاور مع الحركة، حيث سهلت تبادل الأسرى وساعدت فى التفاوض على وقف إطلاق النار.. تجلب مصر الكثير إلى طاولة المفاوضات، بينما يسعى العالم إلى حل للصراع فى غزة.. ولعل الأمر الأكثر إلحاحًا، هو أن تسيطر مصر على معبر رفح، وهو نقطة الدخول الرسمية الوحيدة إلى قطاع غزة، التى لا تسيطر عليها إسرائيل.. فى الماضى، فتحت مصر هذا المعبر وأغلقته لضرورات أمنية.
واليوم، يعد هذا الحقل شريان حياة حيويًا لإيصال المساعدات الدولية إلى غزة، فى الوقت الذى تواجه فيه المنطقة أزمة إنسانية هائلة.. ومن المرجح أيضًا أن تكون رفح بمثابة نقطة خروج للأمريكيين وغيرهم من رعايا الدول الثالثة لمغادرة منطقة الحرب.. كما أن لإسرائيل مصلحة فى العمل مع مصر، لضمان عدم دخول الأسلحة والإمدادات العسكرية الأخرى إلى غزة عبر رفح.
بالإضافة إلى رفح، قامت حماس ببناء شبكة من الأنفاق من غزة إلى مصر.. وكثيرًا ما مكنت هذه الأنفاق الناس فى غزة من شراء السلع المهربة، مثل المواشى والمنتجات الاستهلاكية الأساسية.. وكثيرًا ما أذعنت إسرائيل لهذا التهريب، من أجل تفادى حدوث أزمة إنسانية.. ومع ذلك، استخدمت حماس وجماعات فلسطينية مسلحة أخرى هذه الأنفاق لتهريب الأسلحة إلى غزة، ومر المقاتلون الفلسطينيون عبرها للسفر لتلقى تدريب عسكرى فى لبنان وأماكن أخرى..
ومع ذلك، دفع التوتر فى المنطقة المجاورة لمصر الجيش المصرى إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد شبكة الأنفاق فى السنوات الأخيرة.. وعلى الرغم من أن مصر ليست متعاطفة بالقدر الكافى مع حماس، فإن الحركة المسلحة لديها سجل فى التوصل إلى تفاهمات مع الجيش المصرى.. لذا، فى حين تعهد وزير الدفاع الإسرائيلى بمحو حماس «من على وجه الأرض»، مما يترك مجالًا ضئيلًا للتسوية، تركت حكومة السيسى نفسها مفتوحة لإيجاد التفاهمات اللازمة.
من الصعب التنبؤ بمن سيكون له السلطة السياسية فى غزة فى الأشهر المقبلة، ولكن أيًا كان سيسعى إلى التفاوض مع المصريين.. على أقل تقدير، سيرغبون فى تدفق المساعدات الدولية إلى غزة.. وقد يحاول بعض عناصر حماس أيضًا الحفاظ على بعض القدرة على الأقل على تهريب الأسلحة والضروريات العسكرية الأخرى.
ومن المرجح أيضًا أن يسعوا إلى الحصول على قدرة محدودة على إرسال الأشخاص إلى خارج القطاع، بما فى ذلك كبار المسئولين الفارين من العمل العسكرى الإسرائيلى.. ولعل الأهم من ذلك، أن أيًا كان من يبقى واقفًا فى غزة، سيسعى للحصول على ضمان مصرى لأى اتفاق يتم توقيعه فى نهاية المطاف لإنهاء القتال.
مصر لديها الكثير على المحك، فى الوقت الذى تشارك فيه فى غزة.. كانت مصر ذات يوم مركزًا للسياسة والثقافة العربية، وقد تم تهميشها مع تنامى مشاكلها وتحول انتباه العالم إلى الخليج العربي.. بالنسبة لحكومة السيسى، فإن القيام بدور مركزى فى قضية عربية بارزة مثل الحرب بين إسرائيل وحماس، يجلب هيبة للحكومة التى تكافح بشكل متزايد فى الداخل.. كما أن مصر ليست فوق الاستفادة الاقتصادية من نفوذها فى هذا الصراع.. تفاوض الرئيس السابق حسنى مبارك على أكثر من عشرة مليارات دولار، لتخفيف الديون الخارجية من الولايات المتحدة وحلفائها، مقابل مساعدة مصر فى حرب الخليج عام 1991.. إذا لعبت مصر دورًا مركزيا فى تسوية قضايا غزة، فسيكون ذلك مفيدًا للمنطقة كثيرًا.
ولضمان دعم القاهرة، من شبه المؤكد أن حكومات الخليج والحكومات الغربية على حد سواء، ستحتاج إلى ضمان أن ترى مصر فوائد اقتصادية من القيام بذلك.. تواجه مصر أيضًا مخاوف أمنية مشروعة فى غزة.. فلأكثر من عقد من الزمان فى شمال سيناء، قاتلت مصر إرهابًا يتألف من جهاديين وعصابات إجرامية.. وساعدت عمليات التهريب فى غزة، فى تمويل وتسليح الإرهابيين وتريد مصر وقفها.. والأكثر من ذلك، تخشى مصر من أن يؤدى تدفق اللاجئين من غزة إلى زعزعة استقرار جزء مضطرب بالفعل من سيناء، مما يفرض مطالبًا على الوظائف والموارد ويزيد من تطرف السكان المحليين.
وعلى الرغم من أن حكام مصر غالبًا ما وجدوا قضية مشتركة مع إسرائيل فى القضايا الأمنية، فإنهم لا ينوون التحريض على تهجير الأراضى الفلسطينية.. بعد ثلاثة أرباع قرن، لا يزال الجمهور المصرى متعاطفًا يشدة مع القضية الفلسطينية.. وهم سينظرون إلى أى إعادة توطين للفلسطينيين على الأراضى المصرية، على أنه ترتيب دائم محتمل، خوفًا من تكرار تدفقات اللاجئين الفلسطينيين السابقة التى انتهت بنفس الطريقة، فضلًا عن خيانة حقوق الفلسطينيين فى أراضيهم..
ومع ذلك، تقود الولايات المتحدة الكثير من الدبلوماسية بشأن غزة، وبالنسبة لواشنطن، فإن حكومة السيسى شريك صعب.. قررت الحكومة الأمريكية مؤخرًا حجب خمسة وتسعون مليون دولار من المساعدات العسكرية المخصصة سابقًا لمصر، وكان بعض أعضاء الكونجرس يضغطون لخفض المساعدات بشكل أكبر.
وعلى الرغم من أن مؤتمر السلام الذى عقده الرئيس السيسى حول الصراع بين إسرائيل وحماس، لم يسفر عن شىء جوهرى، فإن مصر ستكون لاعبًا حيويًا بشكل متزايد، إذا بحثت جميع الأطراف عن الخروج من هذه الأزمة.. ونتيجة لذلك، من الأفضل للولايات المتحدة العمل مع مصر..
وعلى المدى القريب، يعد التعاون المصرى ضروريًا بشكل فريد فى معالجة الأزمة الإنسانية فى غزة، بما فى ذلك من خلال ضمان إمدادات الوقود والدواء عبر معبر رفح.. وعلى المدى الطويل، ستلعب مصر دورًا حاسما فى تسهيل أى ترتيب سياسى ينشأ فى غزة، سواء بقيت حماس كحكومة، أو إذا تولى نظام تصريف أعمال من نوع ما السلطة.. وبصفتها الدولة العربية فى خط المواجهة، ستلعب حتمًا دورًا ما فى فرض هذا الترتيب أيضًا.. ستسعى مصر إلى تحقيق مصالحها الخاصة، نظرا لأهمية تأمين الحدود المصرية السينائية، لكن القاهرة يمكن أن تلعب أيضًا دورًا قياديًا مهمًا، حيث تقود الحكومات العربية فى إضفاء الشرعية على أى صفقة.
ومع ظهور اتفاق، ستسعى مصر بالتأكيد إلى الحصول على فوائد.. يمكن للولايات المتحدة أن تساعد مصر اقتصاديًا، فى الغالب من خلال نفوذها على المؤسسات المالية الدولية، التى تدين لها مصر بعشرات المليارات من الدولارات.. يمكن للولايات المتحدة أيضًا مساعدة مصر فى حربها ضد عدم الاستقرار فى سيناء..
وفى حين أن هذا سيساعد فى تحسين الأمن المصرى، إلا أن جزءًا من هذا هو معركة أمريكية، نظرًا لوجود إرهابيين عابرين للحدود فى سيناء، يستهدفون الولايات المتحدة أيضًا.. وستكون زيادة المساعدة الاستخباراتية هى مكان واحد للبدء.. وعلى البلدين أن ينظرا إلى هذه العلاقة على أنها فرصة لإعادة صياغة العلاقة بينهما.. لا يمكن لمصر ولا الولايات المتحدة حل الأزمة فى غزة بمفردهما.. فى الوقت نفسه، لا يمكن لأى منهما القيام بذلك دون الآخر.. غالبًا ما تعثرت العلاقة، لأنه لم يكن هناك مشروع مهم يشعر به الجانبان بنفس القوة.. يمكن أن تكون غزة مصدر إزعاج دائم لكلا الجانبين. ومن مصلحة البلدين أن يجعلاها ساحة للتعاون بينهما.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.