إيمان خطاب تكتب: جلال جمعة.. 30 عاما من الفن وترويض الإبداع
أسعد كثيرا عندما أشاهد تجارب الفنانين المخضرمين.. وكأنني أخوض رحلة مدهشه سعيدة إلى عالم سحرى مجهول يتخلله طريقا طويلا من التجارب الإبداعية والتحديات والخبرات التي لا تعد ولا تحصي، وهذا يأخذنا إلى نؤكد على ان نقد العمل الفنى يعد مغامرة كبرى، ويتطلب مجهود ذهنى واحساس متقد وشجاعة وصدق ايضا.
وكما يقول الناقد والكاتب جون ابدايك:" أمتياز ان يحاط المرء بأعمال فذة،أو على الأقل أعمال خالدة، وهناك براءة الرغبة البصرية،إن تتطلع إلى صورة (عمل فنى ) تحاول أن تكتب عنه بطريقة المساهمة فى الدافع الأولى " أى أن براءة الدهشة هذه، والتفاعل مع العمل الفنى هى الدافع الذى يحثنا للكتابة عنه، بل ومشاركة الفنان ذاته فى توصيل رسالته الفنية والقاء نقاط الضوء على تجربته الفنية الزاخرة بالتنوع الإبداعى.
وهذا ما حدث بالفعل، عندما دلفت إلى قاعة العرض فى جاليرى (بيكاسو ايست ) لحضور معرض الفنان جلال جمعة، حيث تنوعت الأعمال الفنية،من نحت بالسلك وتكوينات من الزلط وفروع الاشجار الطبيعية بجانب الرسم بالالوان المائية واعادة تشكيل بعض الآلات القديمة...كل هذا فى معرض فنان واحد...فكانت الدهشة..ثم الافتنان ومحاولة رؤية جماليات النظرة الفنية والفلسفية وراء هذا التنوع الخصب فى الخامات.
وفى اللحظة التي ندخل فيها عالم جلال جمعة نستشعر روح الطبيعة وطزاجة الحياة البدائية فى اختيار الوسائط والمواد الأولية لاعماله، وكأنه آلة زمن تحملنا من العصور البدائية بخطوطها ورسومات كهوفها حتى تصل بنا إلى فنون القرن الواحد والعشرين التجريدية والتبسيطية.
في استخدامه لأخشاب الشجر والزلط الطبيعى وحتى السلك تلك المواد الطيعة والرخيصة ولكنهم جميعا على الرغم من تواجدهم العشوائى فى الطبيعة تحولوا الى نجوم متألقة أنيقة نظر إليها بأعجاب واحترام وتقدير.هكذا فعلت انامل الفنان فى الطبيعة !
ولعل الدهشة المصحوبة بالأعجاب التى تصاحبنا فى الاستمتاع بهذا المعرض هو قدرة الفنان الكبير على مصاحبة الخامة والسماع لها والتجاوب معها...على عكس ما يحاول النحات التقليدى تحدى المادة وتطويعها لفكره ويده..فكما اننا نرى السلك عاريا..خاليا من اى اضافات تثرية او تثقله دون داعى..فاننا نرى ايضا تشكيلات وتكوينات من الزلط وافرع الشجر كما هى فى الطبيعة بنفس اللون والملمس والشكل الذى تشكل فى الطبيعة..لم يحاول الفنان جلال جمعة التدخل فى الملمس او اللون الا فى بعض الحالات النادرة لكى يوزن التكوين..أويحقق معادلة ما، ولكن احترام طبيعة المادة بل والتحاور معها وتوظيفها لخلق عمل فنى ابداعى جديد يضيف جمالا ورقيا على الجمال الطبيعى الأصلى للمادة..و هذا فى رأى يعد ذكاءا خاصا فى رؤية الفنان يتناسب تماما مع روحه الفطرية بل واستطيع القول الطفولية التى تميل الى التبسيط والمرح، بعيدا عن تعقيدات الحياة وسخافتها واحزانها.
ويؤكد هذة الرؤية عالم فلسفة الجمال د. عزت قرنى فيقول " لابد وأن يحتفظ العمل الفنى بمظهر من مظاهر ثراء المادة الأصلى المكنون لأن هدف الفنان ليس ان يخفى خصائص المادة،بل أن يساعدها على الظهور فى أجلى صورة. ومعنى هذا أن مادة العمل الفنى ليست "مجرد شيء" وأنما هى بمعنى ما ومن جانب ما غاية فى ذاتها فى بعض الأحوال بوصفها ذات كيفيات حسية خاصة من شأنها أن تعين على تكوين الموضوع الجمالى "
ان فلسفة جلال جمعه فى أعماله هى التعبير عن الموضوع بأقل قدر من التدخل وبأقل قدر من التفاصيل..
ربما يميل الى مدرسة minimalism اكثر من التجريد..ولكنها على اى حال فلسفة خاصة بالفنان الذى يريد ان يمنح حياة اخرى لمواد رخيصة ملقاه امامنا طوال الوقت دون ان نراها او نكترث اليها..ليثريها ويثمنها..ويحولها الى اعمالا فنية ترقى لان توضع فى المتاحف العالمية..