الباحث عن الكمال
نجيب الريحاني.. فيلسوف الضحك والبكاء الذى تمنى الموت على خشبة المسرح
- أول ممثل عربى يجعل للكوميديا حكمة وفلسفة.. ويخرجها من دائرة «التسلية فقط»
- سخر من الدنيا بشخصيات مستمدة من حياته التى كانت «ضحكًا كالبكاء»
- كان يرى أن الممثل «يشبه العابد الذى يتقرب إلى الله دون أن يراه»
أشاهد فى وجه نجيب الريحانى خشبة مسرح، وأيضًا الجمهور الذى يضحك ويبكى، أنظر إلى وجهه فأرى كل قواعد الدراما الكلاسيكية والحديثة، فعين للتراجيدايا والثانية للكوميديا، ولا يسع المشاهد سوى أن يضحك ويبكى فى آن واحد، فإذا تحدث صوته الأجش يكون نموذجًا للسخرية اللاذعة، بل يكاد يجسد فلسفة أسلوب الجروتسك فى جملة واحدة بما يحمله من السمات الغرائبية، والانحياز للخيال ومناقضة كل ما هو تقليدى، وحين يؤدى ليس فقط صوته الذى يتحدث ويجسد المعنى، بل كل تفاصيل الوجه، جسده بكامله الذى يتكلم، فعينا الريحانى- الذى تحل ذكرى ميلاده اليوم ٢١ يناير- تعبّران جنبًا إلى جنب مع صوته، فمنذ أن شاهدت أعماله السينمائية وأنا أسأل نفسى لماذا أحب نجيب الريحانى؟ فيلسوف الضحك والبكاء، الكوميديان الذى جعل لفن الكوميديا فى العالم العربى حكمة وفلسفة، فالكوميديا قبله ليست سوى محاولة للضحك والتسلية وقضاء الوقت، وبعده فلسفة عميقة.
تجول فى شوارع القاهرة بحثًا عن هموم الشعب لتقديمها فى مسرحيات
كلما مر الزمن وشاهدت عشرات من ممثلى الكوميديا يزداد تقديرى لهذا الفنان، هذا وعلى الرغم من أننى لم أشاهده على خشبة المسرح، فلم يتم تصوير أى مسرحية له، ولا تملك ذاكرتنا الفنية سوى ما حفظته الإذاعة المصرية من بعض مسامع لمسرحية «٣٠ يوم فى السجن»، فقد رحل مبكرًا، ولم تحفظ له الذاكرة البصرية سوى أفلامه التى قام بتمثيلها بعد ضياع فيلمين أيضًا «صاحب السعادة كشكش بيه ١٩٣١»، و«بسلامته عاوز يتجوز ١٩٣٦»، وتبقت سبعة أفلام هى «ياقوت، سلامة فى خير، سى عمر، لعبة الست، أحمر شفايف، أبوحلموس، غزل البنات»، وجميعها مأخوذ عن مسرحياته التى حققت نجاحًا كبيرًا، والتى كتبها بديع خيرى، والفيلم الأخير كان آخر أعمال الريحانى، فقد مات فى نهايته وتم تعديل نهاية الفيلم، لقد ذهب الريحانى إلى السينما حاملًا تراثه المسرحى، ذهب نجمًا كبيرًا حاملًا الأداء التمثيلى الذى يتميز بالطبيعية والتلقائية، وأعماله التى تطرح السخرية اللاذعة للواقع المصرى، وتناقش أشكال القهر الاجتماعى من خلال شخصيات تسخر من الدنيا مهما حدث لها، شخصيات قنوعة، تؤمن بأن السعادة فى غنى النفس، وهذه الشخصيات ما هى إلا انعكاس لشخصية الريحانى وحياته التى هى سلسلة من الضحك المرير أو ضحك كالبكاء!، وربما هذا ما يفسر إعادة تقديم أعماله فى السينما والمسرح بصور متعددة بعد رحيله، حيث قدم إسماعيل يس أربعة أفلام عن مسرحيات الريحانى وهى: «الدنيا لما تضحك عام ٥٣- كدبة أبريل ٥٤- الستات ميعرفوش يكدبوا ٥٤- محدش واخد منها حاجة ٥٥»، ثم قدم فريد شوقى خمسة أفلام عن مسرحياته بعد ذلك، وهى «صاحب الجلالة ٦٣- العائلة الكريمة ٦٤- المدير الفنى ٦٥- ٣٠ يوم فى السجن ٦٦- دلع البنات ٦٩»، هذا بالإضافة إلى إعادة تقديم عدد كبير من مسرحياته بعد رحيله من خلال عادل خيرى، ثم فريد شوقى وعبدالمنعم مدبولى، وفؤاد المهندس وغيرهم، وربما يكون نجيب الريحانى المسرحى الوحيد الذى تم تحويل أعماله المسرحية إلى أفلام سينمائية، على الأقل من حيث الكم، بالإضافة إلى أن كل من قدموا أعماله، خاصة المسرحية، قلدوا أداءه التمثيلى عن قصد، فكانت روح الريحانى حاضرة فى كل هذه الأعمال.
بالطبع هذا ليس غريبًا، فأعماله جزء من نسيج الذوق العام، جزء من الوجدان المصرى، الأكثر مصرية وقدرة على البقاء، ليكتب بعد ذلك فى مذكراته: «وحين رأيت من الجمهور المثقف ومن عامة الشعب هذا الإقبال منقطع النظير رأيت أن أستغله استغلالًا صحيحًا، وأن أوجهه التوجيه النافع، فرحت أنقّب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التى تنتاب البلاد، ثم أضمّن ألحان الروايات ما يجب من علاج ناجح لمثل هذه الأدوار، كذلك راعيت فى كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور وتعويده على حب الوطن والتغنى بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد».
وهذا ما فعله الريحانى من خلال أعماله، فلم يستغل جماهيريته وإقبال الناس على مسرحه لجمع المال مثلما يحدث الآن، ولكن كان مخلصًا لفن المسرح، ومن يقرأ حياته من خلال مذكراته أو من خلال ما كُتب عنه سيعرف كيف كان يعيش فقط من أجل المسرح، حيث باع أثاث بيته أكثر من مرة لسداد ديونه المسرحية، وكيف كان يغامر بالرحلات إلى آخر الأرض يطوف العالم ما بين أمريكا اللاتينية والدول العربية لتقديم مسرحه، وكيف كان يتجول مع رفيق عمره الفنى بديع خيرى فى شوارع القاهرة باحثًا عن حكاية مصرية، وعن هموم الشعب حتى ينقلها على خشبة المسرح. فمنذ عام ١٩١٦، بدايته المسرحية، حتى وفاته عام ١٩٤٩ قدم الريحانى ٨١ مسرحية، وقد كتب فى مذكراته فيما بعد أن «الممثل يشبه العابد الذى يتقرب إلى الله دون أن يراه»، فالممثل كما يراه الريحانى لا بد أن يسعى إلى الكمال المطلق، ويظل طوال حياته يسعى للوصول إلى هذا الكمال دون أن يبلغه أو يراه أو يصل إليه، وهذا هو نجيب الريحانى الذى نصحه الأطباء فى آخر أيامه بالراحة، فقال لهم: خير لى أن أقضى نحبى فوق خشبة المسرح من أن أموت على فراشى، فلم يكن هذا الفنان فقط الممثل الموهوب، ولكنه كان فيلسوفًا وضع كل عبقريته فى الأداء التمثيلى.
ملك النمسا نقله من التراجيديا إلى الكوميديا.. والجمهور قال عنه: «حتى تكشيرته تضحك»
حاول الريحانى فى بداية حياته أن يقدم الأعمال التراجيدية، التى كانوا يسمونها فى ذلك الوقت «الدرام»، وكان يظن أن الأعمال المأساوية تناسب حياته والظروف الصعبة التى عاشها، ولكن الجمهور أجبره على السير فى الاتجاه المعاكس واحتراف الكوميديا، فكان الجمهور يراه ضاحكًا بالسليقة، وقال أحدهم: لا تستطيع أن تتمالك نفسك وأن تراه حتى تضحك ولو من تكشيرة وجهه المكفهر، حيث كانت الصدفة وحدها المسئولة عن دخوله عالم الكوميديا، بل قُل الأقدار أجبرته على صناعة الضحك، فحين كان يلعب مع جورج أبيض دورًا صغيرًا فى مسرحية صلاح الدين، حيث كان يلعب دور ملك النمسا، وكان جورج أبيض يؤدى دور ريتشارد قلب الأسد والريحانى دور ملك النمسا فى مشهد واحد لا يتعدى بضع كلمات، وكانت الصحف فى ذلك الوقت تنشر صورة جوزيف ملك النمسا أثناء الحرب العالمية الأولى، ويقول الريحانى «رحت ألتمس العقاقير والماكياج حتى صارت هيئتى صورة طبق الأصل من صورة ملك النمسا الحقيقى الذى يعرفه الناس من الصحف»، وما إن شاهده الجمهور على هذه الهيئة حتى انفجر فى الضحك فى رواية من المفترض أنها تراجيديا، ومنذ ذلك اليوم عرف الريحانى طريقه إلى الكوميديا، وعلى الرغم من النجاح الذى حققه فيها؛ إلا أن الحنين كان يراوده للتراجيديا، وقد فعلها عدة مرات وكان يخسر كل شىء، ووفقًا لروايته فقد اقترض بسبب التراجيديا أربعة آلاف جنيه من ٢٨ دائنًا، وكان هذا المبلغ فى ذلك الوقت ثروة كبرى، بل كان نجيب الريحانى أول من قدم معالجة مسرحية للحادثة الشهيرة فى عشرنيات القرن الماضى «ريا وسكينة»، ولم تحقق المسرحية نجاحًا يُذكر، لقد دفع الجمهور الريحانى دفعًا إلى الكوميديا كما وصف بديع خيرى شريكه فى الرحلة.
وتعتبر حياة الريحانى ومسرحه وجهين لعملة واحدة، فكان دائمًا يبحث عن معادل لهذه الحياة حتى يجسده على خشبة المسرح، وكانت شخصية «كشكش بيه» ما هى إلا نتاج هذا البحث العميق، ويحكى الريحانى عن هذه الشخصية وكيف اكتشفها، حيث كان مستلقيًا فى فراشه فى إحدى الليالى يستعرض ما مر به من أحداث وتجارب حلوها ومرها، «ووقفت أمام الكثير منها أستخلص ما تبعها من خير أو شر، فإذ بى أجد مواضيع هى الترجمان الصادق لتلك الحياة التى نقضيها فى العالم المضطرب، وفى فجر تلك الليلة ولا أدرى أكنت نائمًا أم مستيقظًا، وإنما الذى أؤكده أننى رأيت بعينى خيالًا كالشبح يرتدى الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة، فقلت لنفسى ماذا لو جئنا بشخصية كهذه وجعلناها عماد روايتنا»، هكذا كان يفكر الريحانى الذى ساهم فى تطوير الكوميديا المصرية والارتقاء بها، وتفاعل مع الأحداث السياسية وشارك فيها، وكان يفتخر دائمًا بالزعيم سعد زغلول دائم التردد على حفلاته لمشاهدة العروض المسرحية، وإظهار إعجابه بهذه الأعمال بين وقت وآخر، وذات يوم أراد أحد زملاء المهنة ضرب الريحانى، وراح هذا الخصم يروج لشائعة أنه يعمل لصالح الإنجليز وأن السلطة العسكرية تمنحه المال ليقدم روايات تشغل الجماهير عن قضاياها، كما أن هذا الخصم راح يدبج الخطب التى تحرض على قتل الريحانى، ويومها هرب لعدة أيام وأنقذه أعضاء الوفد بحضور عروضه المسرحية تضامنًا معه، والغريب أن هذه الشائعة خرجت بعد تقديم أجمل الأعمال المسرحية الغنائية «العشرة الطيبة» رائعة خالد الذكر سيد درويش، واتهمها هؤلاء بأنها تهاجم الأتراك لصالح الإنجليز، ورغم أن الريحانى وضع فيها كل ما يملك من مال إلا أنها فشلت فشلًا ذريعًا، ولكنها أصبحت فيما بعد واحدة من روائع المسرح الغنائى، وأضافت مجدًا للريحانى وسيد درويش.
كان الريحانى فنانًا حقيقيًا صادقًا أخلص للمسرح، فخلده المسرح على الرغم من أننا لا نملك تسجيلًا واحدًا لأعماله المسرحية، فإذا كانت الأقدار وقفت ضده فى تسجيل العروض المسرحية إلا أنها انحازت إليه فى السينما وحفظت له أغلب أعماله السينمائية، وأصيب بمرض التيفويد فى أول مايو ١٩٤٩ ودخل المستشفى اليونانى بالعباسية، وكان دواء هذا المرض لا يوجد إلا فى أمريكا وأرسلوا فى طلبه على الفور، وقد أسهم مكرم باشا عبيد فى إيصال هذا الدواء فى أسرع وقت، وما أن وصل الدواء وأخذه الريحانى مات على الفور، فى مشهد يليق بمشواره الحافل بالألم والسعادة.