بمناسبة ذكرى ميلاد نجيب محفوظ
وليد الخشاب: نجيب محفوظ رائد في مجالات سينمائية كثيرة.. وصلاح أبو سيف الأقرب لعالمه الأدبي
في الذكرى المائة وإثنتا عشر لميلاد أديب نوبل الكاتب والروائي نجيب محفوظ، يتذكر الكاتب والناقد الدكتور وليد الخشاب علاقته بسينما مؤسس الرواية العربية الحديثة، وكيف كانت وكان صداها في السينما المصرية، وما هي أهم الأعمال والنصوص أو القصص الأدبية التي اقتربت من عالم محفوظ الروائي في المجال السينمائي، عبر وسائط الصوت والصورة والإيقاع البصري، خاصة وأن هناك العديد من النقد أو الجدل والمناهضة التي قللت من جدوى وجود ثمة تماس أو ظلال، تنتمي لما أراد تثبيته عميد الرواية العربية في النص الأدبي أو القصصي.
وهذا الحوار هو الأول مع مثقف وسينمائي وناقد موسوعي كان له الكثير من الوقفات بل ومحطات الكشف فيما يخص علاقة أديب نوبل بماهية الفيلم السينمائي الذي تم طرحه من خلال العديد من الأسماء والمخرجين وكتاب سيناريو كان لهم النصيب الأكبر في التوقف، أو التماهي، أو حتى البعد، ونسف المغزى الفلسفي في نصوص نجيب محفوظ عبر وسائط سينمائية.
وليد الخشاب أستاذ ومنسق الدراسات العربية بجامعة يورك بكندا منذ عام 2007، ومدير جماعة الدراسات العربية الكندية. في عام 2003 حصل على الدكتوراه من جامعة مونتريال في السينما والأدب المقارن وعنوانها "الميلودراما في مصر".
ففي 2004 أدار الخشاب تحرير كتاب: "العرب: الخروج من الأزمة؟" المنشور في دار كورليه الفرنسية، وأتبعه بما يتجاوز ستين فصلاً في كتاب ومقالاً أكاديمياً حول الثقافات العربية والإسلام، لا سيما قضايا الهوية الثقافية والحداثة في السينما والأدب؛ والأبعاد السياسية للصوفية؛ والتفاعلات بين السينما والأدب والثقافة الدارجة؛ وتصوير المقدس في السينما، ونشرت دراساته بالعربية والفرنسية والإنجليزية في دورهامومونتريال وباريس وإسطنبول والقاهرة.
في مجال النقد الأدبي والثقافي خارج النطاق الأكاديمي، نشر كتابين من تأليفه: "دراسات في تعدي النص" و"مهندس البهجة: فؤاد المهندس ولاوعي السينما"، وأدار تحرير ثلاثة كتب، بالإضافة إلى عشرات الدراسات النقدية المنشورة باللغة العربية في العديد من الدوريات الثقافية والمواقع الإلكترونية العامة، بالإضافة إلى مساهماته في الدوريات المحكمة.
كمترجم، نشر وليد الخشاب العشرات من القصائد والدراسات المترجمة من وإلى الفرنسية، وترجم إلى العربية لاكانوتودوروف ونشر الترجمة العربية لكتاب زومتور العمدة: "مدخل إلى الشعر الشفاهي"، إضافة لرواية وديوان لمنى لطيف.
- كيف ترى محفوظ في السينما وأي أفلامه التي ستخلد من قبل المعالجة السينمائية التي قدمت وأعجبتك؟
السينما جزء لا يتجزأ من عالم نجيب محفوظ كأديب. فقد تدرب على كتابة الروايات الواقعية التي اشتهر بها من خلال تدربه على كتابة السيناريو، ولذلك فرواياته في معظمها مكتوبة بسيناريوهات محكمة يسهل تحويلها سينمائيا. الأفلام التي اقتبست روايات محفوظ كثيرة جدا، فمحفوظ أكثر روائي عربي تم اقتباسه سينمائيا في مصر وفي العالم. بالإضافة إلى عشرات القصص والروايات التي كتبها محفوظ وتحولت إلى أفلام ثم مسلسلات تلفزيونية، فقد اقتبست السينما المكسيكية فيلمين عن روايتيه "بداية ونهاية" و"زقاق المدق"، والأخير من بطولة سلمى حايك النجمة المكسيكية الأمريكية، التي لعبت الدور نفسه الذي قدمته شادية في الفيلم المصري، دور الغانية حميدة. محفوظ ليس فقط روائياً يكتب أعمالاً متميزة يسهل تحويلها على أفلام، بل هو من أقوى من هضم تقنيات السيناريو ووظفها في الكتابة الأدبية. وهو كذلك من أقوى كتاب السيناريو وكتاب المعالجات السينمائية في تاريخ الأدب والسينما في مصر. اليوم نذكر نجيب محفوظ باعتباره الأديب العالمي الذي حصل على نوبل اعترافاً بعبقريته كأديب. لكننا ننسى أن محفوظ في الخمسينات والستينات كان مشهوراً أيضاً بفضل دوره وإنتاجه كسيناريست، وصانع سينما، كموظف في المؤسسات الثقافية السينمائية مثل الرقابة على المصنفات الفنية.
نجيب محفوظ لم يكن فقط حرفياً سينمائياً كبيراً، بل كان رائداً في مجالات سينمائية كثيرة. شارك في كتابة فيلم "فتوات الحسينية" من إخراج نيازي مصطفى فكان بذلك رائداً لأفلام الفتوات التي ازدهرت في الثمانينات، أي بعد ثلاثة عقود من فيلمه هذا. والمثير أن رواية محفوظ "أولاد حارتنا"، باكورة أعماله التي يمتزج بها عالم الفتوات بعوالم الرموز الروحية قد بدأت في الخروج إلى النور بعد عدة سنوات من ظهور فيلم "فتوات الحسينية" وكأن الفيلم كان المسودة الأولى للرواية الملحمية، وكلاهما يحمل أبعاداً سياسية، حيث يساعد رمز الفتوة على إلقاء سؤال السلطة والتأمل في إطلاقها أو تحديدها، في القبض عليها بالقوة، أو تسلمها من الناس تفويضاً. وفي الفيلم بذرة الخط الدرامي للفتوة الشرير الذي يزيحه فتوة طيب، والذي نراه بقوة بعد ذلك في رواية "الحرافيش".
وقليل من يذكر أن محفوظ كان من رواد كتابة سيناريو أفلام الجريمة، ومن رواد اقتباس الروايات الكلاسيكية الغربية في إطار معاصر. في عام 1947 كتب محفوظ لصلاح أبو سيف سيناريو فيلم "المنتقم" الذي يمثل اقتباساً منقولاً في قالب معاصر لرواية الكونت دي مونت كريستو للروائي الفرنسي الشهير ألكسندر ديماس، ويركز السيناريو على قصة شاب تعرض لمؤامرة دبرها صديقه ليخطف منه خطيبته ويفوز بها، وانتقام الشاب ممن آذوه بعد أن اكتشف الأصابع التي دبرت له المكيدة. وربما وجدنا في هذا السيناريو بذرة من بذور رواية محفوظ "اللص والكلاب" التي تدور أيضاً حول انتقام شاب من صديقه الذي دبر له مؤامرة أودت به إلى السجن، ليخلو له الجو مع زوجة صديقه.
- من هو السيناريست أو المخرج الأجدر بتفسير رؤى نجيب محفوظ سينمائيا؟
ربما يتبادر إلى الذهن أن أفضل مخرج قد حول أعمال نجيب محفوظ إلى أفلام هو صلاح أبو سيف. فكلاهما من رواد الواقعية كلاً في مجاله، ولكليهما هالة الفنان والمبدع الكبير. والحقيقة أن فيلم صلاح أبو سيف "بداية ونهاية" عن رواية محفوظ بالاسم نفسه فيلم بديع. لكني أرى أن كل مخرج قد عالج عملاً أدبياً من أعمال محفوظ قد أبرز جانباً مختلفاً في العالم الجمالي والرمزي للروائي الكبير. واجتماع الزوايا المتعددة التي تناولت منها السينما أعمال نجيب محفوظ يؤكد تفرد أديب نوبل العربي، وتعدد دلالات وتأثيرات قصصه ورواياته. فقد أبرز كل من نيازي مصطفى (في "التوت والنبوت" مثلاً) وحسام الدين مصطفى (في الحرافيش مثلاً) جانب الحركة والتشويق والمعارك في قصص محفوظ، وأبرز كلٌ من عاطف الطيب (مثلاً في "الحب فوق هضبة الهرم") وأشرف فهمي (مثلا في "الشيطان يعظ") وصلاح أبو سيف (مثلاً في "القاهرة 30") الجانب الواقعي في تصوير الأماكن وملابس الشخصيات وأساليبها في الكلام في عالم محفوظ، وأبرز علي بدرخان الجانب الرمزي الأسطوري والصوفي الملحمي (في"الجوع").
لكن لو جاز لي أن أذكر اسما واحدا لميزت علي بدرخان كناقل لعالم محفوظ الأدبي على شاشة السينما، لأنه برع على حد سواء في تقديم جانبين متميزين ومتمايزين في جماليات محفوظ الأدبية: الجانب شديد الواقعية في فيلم "أهل القمة" (وكذلك في "الكرنك")، والجانب المنغمس في الواقعية وفي الملحمية الرمزية معاً في رائعته السينمائية "الجوع". علي بدرخان صاحب فيلمين يمثل كل منهما علامة في تاريخ السينما المصرية "أهل القمة" الذي يعتبره البعض بداية موجة الواقعية الجديدة، و"الجوع" الذي يعتبره البعض -وأنا منهم- واحداً من أهم أفلام السينما المصرية. وكلا الفيلمين مقتبسان عن نجيب محفوظ. والحقيقة أن "الجوع" تحديداً يجمع بين الخصائص المحفوظية التي ذكرتها كلها: فهو يحمل ملامح الواقعية والتشويق والملحمية والصوفية، بل والإسقاط السياسي الذي هو أيضاً جزء من خصائص أدب محفوظ. ثم إن علي بدرخان مقل في إنتاجه، لكنه -بحساب نسبة أفلامه المقتبسة عن محفوظ لعدد أفلامه كمخرج- يعتبر صاحب أكبر معدل اقتباس من روايات محفوظ. فقد أخرج عشرة أفلام، ثلاثة منها مقتبسة عن روايات لنجيب محفوظ. أي ان ثلث منجزه الفني كمخرج يقتبس محفوظ ويستلهمه.
- بعد مرور مائة وثلاثة عشر عاما على ميلاد محفوظ، كيف تراه أدبيا وسينمائيا؟
كل يوم يتأكد لنا أن محفوظ أديب عظيم، مثلما يتأكد لنا أن عبد الحليم حافظ مغنٍ فذ. في حياة كل منهما، كنا نسمع ونقرأ عن أقران لمحفوظ في الأدب وأقران لعبد الحليم في الغناء. لكن كلما مرت السنين بعد وفاة كل منهما، تذوي ذكرى أسماء كثيرة، ويظل اسم محفوظ لامعاً كأديب، كما يظل اسم حليم براقاً كمغنٍ. هذا دليل التميز والعظمة: أن تبقى الذكرى حية متجددة، بعد وفاة الأديب أو الفنان، وبعد أن يقوم الزمن بفرز، ينحي جانباً أسماء كانت تحتل مساحة إعلامية بحكم احتياج السوق لصناعة الأخبار عن أكثر من أديب أو فنان، لتبقى ذكرى الفنان والأديب الأكثر تميزاً بفعل مكانتها في الذاكرة، لا بفعل صناعة الدعاية. اليوم نذكر محفوظ دائماَ، ولا نذكر عبد الحميد جودة السحار أو علي أحمد باكثيرإلا نادراً. هذا أصدق دليل على تميز محفوظ.
- وماذا سيبقى من نصوصه الأدبية؟
كثير من أعمال محفوظ ما زالت تؤكد أنها خالدة: الثلاثية بالطبع وأولاد حارتنا والحرافيش. ليست هذه فقط كلاسيكيات محفوظ، تلك الأعمال التي أظن أنها باقية لقرون عديدة في الذاكرة مثل المعلقات في أدبنا العربي أو الأوديسا في الأدب الغربي. لكن هي أعمال بلغت حد الملحمية رغم واقعيتها، مثل الثلاثية. أو هي أعمال ملحمية رمزية لكن تحمل ملامح الواقعية أيضاً مثل أولاد حارتنا والحرافيش. أعتقد أن علامة من علامات تفرد محفوظ هو جمعه بين الواقعي والملحمي في كل صفحة من أعماله الفذة. فهو يحكي تفاصيل القاهرة في الثلاثية، ويرفعها إلى مرتبة الأمثولة المتجاوزة للتاريخ، في آن. وهو يخلق نماذج بشرية عابرة للأزمان والأوطان تمثل الخير والشر والخسة والنبل في الحرافيش، وينزلها مصاف الشخصيات التاريخية في قاهرة ما قبل التحديث الأوروبي الجذري في القرن التاسع عشر، في الوقت نفسه.
على المستوى الشخصي يجذبني في "زقاق المدق" أنها رواية سابقة على عصرها على نحو ما، فهي تحتفي بالهامشيين والصعاليك وشذاذ الآفاق، ونسمع فيها أصواتا تنتقد الخطابات المعتاد ترديدها عن مكانة الهوية الجماعية وأهمية الأخلاق مثلا. وهي رواية مليئة بالتهكم والمفارقات الساخرة التي تنتقد منظومة الأخلاق العامة والخاصة التقليدية. تحطيم التابوهات الأخلاقية والوطنية باستخدام السخرية في الأربعينات المصرية، باللغة العربية، كان -بمعنى ما – سابقة لن تتحول إلى تيار إلا عند بعض كتاب التسعينات. بهذا المعنى فنجيب محفوظ قد سبق كتاب التسعينات بنصف قرن. لهذا، أرى في "زقاق المدق" عملاً باقياً في ذاكرة أصحاب الذائقة الضد، المتمردة، المعناة بالهامش.
- كلمة منك للقراء ومحبين نجيب محفوظ في ذكرى ميلاده؟
نجيب محفوظ ما زال كنزا به الكثير من الأسرار والمتع التي لم نستكشفها بعد. هو كلاسيكي بمعنى أنه يتجدد وتتجدد قاعدة قرائه كل عقد أو عقدين، وما زال كاتباً ذا جماهيرية كبيرة، بدليل حرص الناشرين على شراء حقوق نشر أعماله وتنافسهم فيما بينهم للحصول على تلك الحقوق. أما على المستوى الفردي، فيسعدني بشكل شخصي أنني من مواليد برج القوس مثل نجيب محفوظ نفسه. لعل في هذا علامة من القدر.