«صباح ومساء».. تأملات الكاتب النرويجى يون فوسه عن معنى الحياة
كانت لجنة جائزة نوبل للآداب فى حفل إعلان الفائز بجائزتها لهذا العام قد أشارت إلى استحقاق الكاتب النرويجى «يون فوسه» للجائزة «لمسرحياته المبتكرة وأعماله النثرية التى تعطى صوتًا لما لا يمكن البوح به»، غير أن روايته «صباح ومساء»، التى صدرت ترجمتها العربية بوقت سابق عن «دار الكرمة»، لا تقتصر فقط على «ما لا يُقال»، وإن كان حاضرًا بدرجة ما، وإنما تتبلور فكرتها ومغزاها من «معتاد القول» الذى يتكرر كل يوم فى حياة كل إنسان، وربما بالعبارات ذاتها، لكن تكراره وعاديته يُبعد انه دومًا عن أن يصير محل تساؤل أو تفكر أو حتى محض دهشة.
مساء الميلاد وصباح الموت
ببساطة خادعة بين مساء وصباح؛ يجردان الميلاد والموت، ينسج «فوسه» أحداث روايته القصيرة فى فصلين، ففى الفصل الأول يجلس الأب «أولاى» فى انتظار ميلاد ابنه الذى اختار اسمه «يوهانس»، والذى يرجح أنه سيعمل صيادًا مثل جده الذى سُمى باسمه. وفى خضم رحلة المخاض المقلقة تراود «أولاى» تأملات عن الله والعالم والإنسان، يكتبها «فوسه» فى أغلب الأحيان بصورتها الأقل إدهاشًا والأكثر عادية، مثلما قد ترد على لسان أى إنسان بسيط أو على الأرجح مثلما قد تمر كفكرة عابرة بذهنه دون أن يسعى لأن يصيغها فى عبارة ملائمة أو جميلة منمقة.
يُفكر «أولاى» فى حياة وليده؛ فهى من عدم وإلى عدم تصير، وهو من وحدة الرحم إلى وحدة الحياة. ويتأمل فى حياته التى سيّرها رب رحيم فرزقه ابنة رائعة «ماجدا» ثم يرزقه ولدًا لطالما انتظره، ويتفكر فى أشكال حضور الله بحياة الإنسان؛ فهو إله «تشعر به عندما تتنكر لهذا العالم، عندها يظهر بنفسه وعلى نحو غريب فى الفرد كما فى العالم»، وهو «البعيد البعيد، والقريب القريب، لأنه كامن داخل كل واحد من البشر».
وبينما يهيمن على «أولاى» التداعى الحر للأفكار فى لحظة ثابتة ولكنها مفعمة بضجيج من المشاعر والأفكار، يأتى الفصل الثانى فى صباح مفعم ظاهريًا بالحركة وبتكرار الأحداث اليومية من حياة «يوهانس» العجوز، لكنها فى الحقيقة حركة غير واقعية لم تحدث سوى فيما بعد الحياة، حيث غادر «يوهانس» بالفعل الحياة، وكان تكرار يومه المعتاد بخفة غير معتادة يجرى فى نفس العالم ولكن بعد أن استكان جسده فيما بقيت روحه هائمة تستعيد مسيرة حياتها بمسراتها وأوجاعها.
اللافت فى رواية «فوسه» ليس فقط ذلك التجريد لجوهر الحياة، وإنما الكيفية التى من خلالها صاغ تلك الرؤية مجردة. هنا الكتابة تتخلى عن زخارفها بشكل كامل إلى حد يتكرر فيه فعل القول مع كل سطر تقريبًا ودون داعٍ فى أغلب الأحيان، ويركز السرد على العادى من الأحداث والمواقف لا للتأمل فى جوانبها المشرقة، وإنما إبرازًا لكمون المعنى بها حتى وإن لم تكن جميلة دائمًا، وتتكرر الكلمات تمامًا مثلما قد تندفع إلى الذهن بعفوية وارتباك.
تجريد رحلة الحياة
هذا السرد الذى يُركز فيه المؤلف على العادى والمتكرر من الأحداث والأفكار، وبمعزل عن ضجيج الأحداث الكبرى والحبكات المعقدة، هو ما يمنح كتابة «فوسه» فرادتها، فالأفكار الوجودية الأساسية تحضر عبر اليومى المتكرر الذى لا يُخفى أى تفرد ولا يُلصق المؤلف به أى صفة استثنائية، وبسرد لا يقل عادية وبساطة عن أى يوم من حياة أبسط إنسان لم تُغلفه تعقيدات الحياة الحداثية، تلك الأحداث التى يسردها الكاتب بسلاسة تبرز ليس فقط تكرار أيام كل إنسان على الوتيرة نفسها وإنما تشابه رحلة كل إنسان حال تجريدها إلى جوهرها.
فى اليوم الأخير الذى يعبر فيه «يوهانس» من الحياة إلى الموت، يكون قد وعى تمامًا أن معنى وجوده قد تشكّل من مشاعره التى تكوّنت بمرور الأيام مع الموجودات من تلال وقوارب وصخور وبحر وسماء، وأن علاقته بالموجودات من حوله هى التى صنعت حياته.
يعى «يوهانس» من منظور المغادر للحياة أن المعنى هو المنظور الذى يُلبسه كل فرد لما حوله، وأن فى الأشياء الصغيرة والعابرة، مثل قدح قهوة تعده زوجته ونزهات عابرة مع صديقه، هى ما قد تجعل كل صباح أكثر احتمالًا وأجمل أثرًا، وأن فقدانها يُنذر بخواء قد يفضى إلى موت الفرد بينما هو على قيد الحياة.