القاضى هو الله
حكاوى التاريخ عن الأمير أحمد بن طولون لا تنتهى، وكأنى بهذا الرجل قدم تجربة مبكرة فى حكم مصر بعد الفتح الإسلامى، تأثر بها الكثير ممن جلسوا فى موقعه على سدة الإمارة أو المُلك أو السلطنة أو الرئاسة، على مدار القرون المتصلة التى أعقبته. فما أكثر ما تجد أصلًا فى تجربته للعديد من ممارسات الأمراء والسلاطين الذين جاءوا بعده بمئات السنين.
يلصق المؤرخون العديد من الصفات الإيجابية الدالة على العدل والإنصاف والرحمة بالرعية بأحمد بن طولون، وفى الوقت نفسه يذكرون له العديد من المواقف العكسية التى جار فيها وظلم وافترى على من حوله، خصوصًا من خالفوه فى الرأى. ولا لوم على من أرّخوا لتجربة الرجل خلال الأزمنة القريبة منه، فقد كانوا أبناء سياقهم، ولم يكن أى منهم يرى غضاضة فى التقلبات المزاجية للحكام، ما بين الرضا والغضب، والمنح والمنع، والعدل والظلم، فالتقلب كان يمثل فى نظرهم سمة الحكم والحكام، خصوصًا حين يواجه الأمير برأى مخالف، يصر عليه صاحبه، مثلما حدث من القاضى «بكار بن قتيبة» مع أحمد بن طولون.
على مدار سنوات عديدة كانت العلاقة بين الأمير والقاضى هادئة متدفقة، قوية متينة، تتأسس على توقير الأمير للقاضى، واحترام القاضى لمقام الأمير. يذكر «ابن تغرى بردى» فى كتابه «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة» أن أحمد بن طولون كان يذهب كثيرًا لحضور مجالس العلم التى ينظمها القاضى، يدخل مع حجّابه وحرسه المجلس فى صمت، ليفاجأ القاضى بالأمير جالسًا إلى جانبه يتلقى عنه العلم. يد الأمير كانت سخية مع «بكار»، فكان يرسل إليه كل عام بألف دينار «ذهب» غير الراتب المقرر له، وكان الأخير يتركها على حالها ويختمها لا ينفق منها شيئًا، إذ لم يكن «ابن دنيا».
ولأن الدنيا لا تدوم على حال، فقد تبدلت أوضاع العلاقة بين «ابن طولون» و«بكار» وفسد الأمر بينهما. وكان السبب فى ذلك رأى قال به القاضى «بكار» فى الخلاف الذى وقع بين الأمير وولى عهد الخلافة العباسية «الموفق بالله». فى ذلك الوقت واجهت دولة الخلافة ثورة عاصفة قادها «الزنج»، عجز الخليفة «المعتمد» عن مواجهتها، وباتت الدولة العباسية على وشك السقوط. أمام ذلك اضطر «المعتمد» إلى اللجوء لأخيه «الموفق» وعيّنه وليًا لعهد الخلافة، وطلب منه إعادة تنظيم الجيوش لمواجهة الخارجين على الدولة، وقد نجح «الموفق» فى ذلك، واستطاع أن يقضى على «ثورة الزنج»، وقبض على صاحب الزنج وقتله. وأمام هذا الإنجاز وجد «الموفق» نفسه أحق بالحكم من أخيه، بل صار الخليفة الفعلى، الذى يأمر وينهى ويصدر القرارات، فى حين يقبع «المعتمد» فى قصره، كمجرد خليفة رسمى تصدر العملة باسمه، ويدعو له الخطباء على المساجد.
العلاقة بين أحمد بن طولون و«الموفق»، ولى عهد الخلافة، كانت سيئة للغاية، بسبب الطلبات المالية العديدة للأخير من أمير مصر ليمول حربه ضد الزنج، وفى لحظة ضجر من هذه الطلبات جاء الأمير بمشايخ مصر وقضاتها، وعلى رأسهم القاضى «بكار بن قتيبة»، وطلب منهم إصدار فتوى بعزل «الموفق» من ولاية عهد الخلافة العباسية، امتثل له الجميع إلا «بكار»، فقد رفض ذلك تمامًا، من منطلق أن «الموفق» حمى الدولة العباسية من السقوط خلال ثورة الزنج، وأنه أحق بولاية العهد من غيره. غضب الأمير أحمد على القاضى «بكار» غضبًا شديدًا، وأمره أولًا برد ما أعطاه له من «دنانير»، فرد الأخير ١٨ كيسًا من الذهب بختمها، كما تسلمها منه، لأنه لم يكن، كما حكيت لك، «ابن دنيا» ميالًا إلى الإنفاق. لم يكتف «ابن طولون» بذلك، بل قرر القبض على القاضى وحبسه، وقد كان. أخذ الأمير يرسل إلى «بكار» فى السجن يطلب منه الامتثال لأوامره، وخلع «الموفق» ليعفو عنه ويطلق سراحه، لكن الأخير أصرّ على موقفه ورأيه، فظل فى الحبس مدة من الزمن.
كانت الأيام تمر على القاضى «بكار» داخل السجن وهو صابر محتسب، وكانت فى الوقت نفسه تأكل من عمر وصحة الأمير أحمد بن طولون، فساءت أحواله وسقط فى قبضة المرض. ثقل الضعف على الأمير، وأحس بقرب النهاية، تذكر فجأة القاضى «بكار» الذى ألقى به فى الحبس، فأرسل إليه من يخبره بأن الأمير قد عفا عنه، وسيرده إلى منزلة أحسن من التى كان فيها. ابتسم القاضى بوجه متعب، أهلكه مرور السنين، وعذابات الحبس، وردّ على الرسول قائلًا: شيخ فانٍ، وعليل مريض، والملتقى قريب، والقاضى هو الله. سمع «ابن طولون» الرد من الرسول، فأخذ يردده بينه وبين نفسه، وهو فى قمة الإحساس بالقهر والألم. لقد عرف «القاضى» كيف يوجع «الأمير»، فرد على عرضه هازئًا بقيمة خروجه من السجن بعد أن جرى به العمر وتضعضعت صحته، وبات- مثل الأمير- على شفا الموت، وعما قريب سيجتمع الاثنان أمام الخالق العظيم، أعدل من حكم وقضى.
أمر «ابن طولون» بإخراج القاضى «بكار» من السجن، وأسكنه دارًا أجّرها له، وتركه فى حاله. مكث القاضى فى بيته، وربما استرجع فى نفسه التحذير، الذى سبق وحذره الإمام على بن أبى طالب من الثلاثة الذين لايؤمنّ، ومنهم: السلطان ولو قربك. أما أحمد بن طولون فقد تضاعفت أوجاعه الجسدية بأوجاع أخرى نفسية، بسبب الكلمات التى سمعها من القاضى «بكار» حين حاول ترضيته وإخراجه من السجن، فظل يرددها حتى لقى وجه ربه: شيخ فانٍ وعليل مريض، والملتقى قريب، والقاضى هو الله.
نعم «القاضى هو الله».