إسرائيل.. هل حان وقت المراجعات الجوهرية؟
مرحلة المراجعات الإسرائيلية الداخلية، آتية لا محالة. ربما لم يحن وقتها بعد، تحت وطأة غبار الاشتباكات، ورغبة القادة الإسرائيليين السياسيين والعسكريين فى تفريغ شحنة الانتقام الهائلة، التى تضرم وتضرب جنبات المجتمع الإسرائيلى بذات القسوة التى تماثل ما جرى. لذلك فأيًا ما كان حجم وامتداد الموجة الانتقامية الارتدادية، وبغض النظر عن سقفها الزمنى الذى لم تتضح معالمه حتى الآن، بالنظر إلى التفاعلات الجديدة المتنامية فى حجم الخسائر وأعداد الضحايا، فالهزة العميقة التى جرت لم يتمكن أحد حتى اللحظة من إدراك ما ستحدثه من متغيرات، ستتشكل وتبقى لتتجاوز الحدود الجغرافية لـ«قطاع غزة» وغلافها، ومدن ومستوطنات الجنوب الإسرائيلى، بل ربما إلى حد التماس مع جوهر مشروع الدولة الإسرائيلية.
لذلك ورغم إدراكنا للوقت المبكر؛ إلا أن هناك بعضًا من الإرهاصات الإسرائيلية التى بدأت تسير على درب المراجعات، وبدأت فى طرح العديد من الأسئلة الفارقة والدالة على حجم المأزق الداخلى الذى يعيشه الداخل الإسرائيلى. النموذج الأول جاء بأحد التقارير المنشورة فى جريدة «يديعوت أحرونوت» فى الثامن من أكتوبر، أى فى اليوم التالى مباشرة لعملية «أمواج الأقصى» الفلسطينية، وكاتبه هو «إليشع بن كيمون». التقرير جاء بعنوان؛ التعقيد فى عملية إعادة الأسرى: «إسرائيل لم تشهد مثل هذا الوضع على الإطلاق». واستهل الكاتب تقريره المنشور بأهم الصحف الإسرائيلية بالقول، إن جزءًا جوهريًا من الهجوم المفاجئ لـ«حماس» سيرافق دولة إسرائيل خلال الزمن المقبل، وهو مسألة الأسرى والمفقودين. فالناطق بلسان الجيش الإسرائيلى اعترف بوجود أسرى إسرائيليين فى غزة، بينهم جنود وضباط ومدنيون وأطفال وكبار فى السن. وقد أورد تعليقًا مهمًا لـ«إيلان لوتن»، المسئول السابق فى الشاباك ذكر فيه: أنه من المبكر الحديث عن ذلك. فنحن حتى الآن، لا نعرف عدد الأسرى والمفقودين الموجودين لدى «حماس». وبحسب الصور فى وسائل التواصل الاجتماعى، هناك أطفال وكبار فى السن، ولا أذكر حدوث مثل ذلك من قبل، ولم نشهد مثل هذا العدد من المخطوفين.
أضاف «لوتن» فى معرض تحليله لهذا المأزق؛ أنه عادة فى حروب إسرائيل، عندما يقع مقاتلون فى الأسر، كانت إجراءات تبادل الأسرى تجرى من خلال الصليب الأحمر وأطراف أُخرى، ففى حالات مشابهة مثل خطف «جلعاد شاليط»، كان هناك الوسيط الألمانى والمصريون. هذه المرة لا يوجد أحد. وتابع المسئول السابق فى الشباك: واثق بأن «حماس» فوجئت بعدد المواطنين الذين أخذتهم إلى غزة. وهى لم تتوقع هذا العدد من المخطوفين. مع ذلك، وعلى الرغم من استمرار القتال هناك أطراف يجرون اتصالات مع وسطاء مختلفين، بينهم مصريون وقطريون، ويوضحون لهم أن «حماس» هى المسئولة عن أمن المخطوفين وسلامتهم. مرحلة المفاوضات ستأتى لاحقًا بالتأكيد، بعد أن يتضح العدد. وسيكون هناك تفريق بين المتقدمين فى السن والأطفال والمواطنين من الشباب، وبين الجنود الأحياء والأموات، وهذا يغير كثيرًا فى المفاوضات من جميع النواحى. الآن؛ يجب تشكيل طاقم مهنى يعالج هذا الموضوع، ويكون مسئولًا عن كل شىء. وفى تقدير إيلان لوتن؛ هناك مشكلات عديدة فى هذا الشأن، وهناك أعداد كبيرة من العائلات، أزواجًا ونساء وأولادًا وأهلًا، لهذا يجب سريعًا دون تباطؤ؛ إيجاد هيئات قادرة على تقديم الإجابات والرد على كل عائلة مخطوف على حدة. ويجب ألا يكون هناك مخطوف أو أسير لا نعلم به. فالحرب النفسية تدور بقوة، «حماس» لا تتحدث فقط مع القادة الإسرائيليين، بل تتحدث مباشرة مع عائلات المخطوفين، لإحداث المزيد من الضغط. وهذه المسألة ستكون طويلة ومعقدة، ولم نعرف مثيلًا لها من قبل.
النموذج الثانى؛ جاء فى كتابة صادمة للكاتب الإسرائيلى الشهير «آرى شبيت» فى صحيفة «هآرتس» الأعلى قراءة وتداولًا داخل المجتمع الإسرائيلى وخارجه. وقد بدأ حديثه معلقًا على أداء الحكومة الإسرائيلية وتوجهاتها بالقول: يبدو أننا اجتزنا نقطة اللا عودة، فلم يعد بإمكان «إسرائيل» إنهاء الاحتلال، ووقف الاستيطان وتحقيق السلام، ويبدو أنه لم يعد بالإمكان إعادة إصلاح الصهيونية، وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم الناس فى هذه الدولة. فإذا كان الوضع كذلك، فإنه لا طعم للعيش فى هذه البلاد، وليس هناك طعم للكتابة فى «هآرتس»، ولا طعم لقراءة «هآرتس». يجب فعل ما اقترحه روغل ألفر قبل عامين، وهو مغادرة البلاد. إذا كانت «الإسرائيلية» واليهودية ليستا عاملًا حيويًا فى الهوية، وإذا كان هناك جواز سفر أجنبى لدى كل مواطن «إسرائيلى»، ليس فقط بالمعنى التقنى، بل بالمعنى النفسى أيضًا، فقد انتهى الأمر. يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس. ليست الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى هما اللذان سيوقفان الاستيطان. القوة الوحيدة فى العالم القادرة على إنقاذ «إسرائيل» من نفسها، هم الإسرائيليون أنفسهم، وذلك بابتداع لغة سياسية جديدة تعترف بالواقع، وبأن الفلسطينيين متجذرون فى هذه الأرض. وأحث اليوم على البحث عن الطريق الثالث، من أجل البقاء على قيد الحياة هنا وعدم الموت.
ومضى الكاتب الإسرائيلى آرى شبيت إلى أبعد من ذلك؛ فقد استنجد بحسب قوله بعلماء الآثار الغربيين واليهود، من أشهرهم «إسرائيل فلنتشتاين» من جامعة تل أبيب، الذى أكد أن الهيكل أيضًا كذبة و«قصة خرافية» ليس لها وجود. فقد أثبتت جميع الحفريات أنه اندثر تمامًا منذ آلاف السنين، وورد ذلك صراحة فى عدد كبير من المراجع اليهودية، وكثير من علماء الآثار الغربيين أكدوا ذلك أيضًا. لعنة الكذب هى التى ستلاحق الإسرائيليين، ويومًا بعد يوم، تصفعهم على وجوههم بشكل سكين بيد مقدسى وخليلى ونابلسى، أو بحجر، أو سائق حافلة من يافا وحيفا وعكا. آمل أن يدرك الإسرائيليون أن لا مستقبل لهم فى فلسطين، فهى ليست أرضًا بلا شعب كما كذبوا وتواطأ معهم العالم لتصديقهم!
هناك بداية لمراجعات قاسية، والإشكاليات المعقدة التى ستنتجها هذا الجولة من التصعيد، التى تسميها إسرائيل رسميًا بـ«الحرب»، ستبقى وستتمدد بطرح مزيد من الأسئلة الوجودية. وستواجه تلك الحكومة الحقيقة العارية التى لن تقف عند حد البحث عن إدارة عاقلة، تعمل على ملف تبادل الأسرى، بل سيمضى طريق البحث لأبعد مما يظنون، وقد يمس جوهر مشروع الدولة كما هو بادٍ من الأصوات التى بدأت تستشعر خطر البقاء، داخل هذا المشروع المحفوف بالمخاطر والأكاذيب والكثير من التطرف.