"أيام الدم والنار".. جولدا مائير تروى لحظات الرعب من "أكتوبر 73": اقتلونى إذا وصل المصريون إلى منزلى فى تل أبيب
«ليس أشق على نفسى فى الكتابة، من بين كل الموضوعات التى كتبت عنها فى هذا الكتاب، قدر أن أكتب عن حرب أكتوبر، حرب يوم كيبور».. ربما كانت تلك الجملة التى كتبتها جولدا مائير، أول رئيسة وزراء لإسرائيل، هى التى همست بها لذاتها قبل لحظات من دخول تحقيق «لجنة أجرانات»، التى تشكلت لمحاكمة المسئولين عن إخفاقات وفشل إسرائيل الذريع خلال حرب ١٩٧٣.
منذ نحو ٤٥ يومًا، صدر فيلم «جولدا» رسميًا فى دور السينما الأمريكية، وهو يحكى السيرة الذاتية لرئيسة الوزراء الإسرائيلية، تحديدًا خلال فترة حرب السادس من أكتوبر.
ورغم أن الإطار العام للفيلم يهدف لخلق نوع من التعاطف مع جولدا- «سيدة إسرائيل القوية» رغم مرضها الشديد- وتبرئتها من ذنب الهزيمة، واعتماده على السردية الإسرائيلية فى تكوين صورة «المنتصر متأخرًا»- فإن الأحداث التى يوثقها كشفت عن مرارة الهزيمة التى عاشتها تل أبيب، وتحديدًا رئيسة الوزراء الإسرائيلية.
الحرب فاقمت آلامها وأصابتها بكوابيس تسمع فيها صراخ جنودها ورعبهم من المصريين
يكشف الفيلم عن الحالة الصحية التى كانت عليها جولدا مائير خلال فترة حرب أكتوبر، فقد كانت مصابة بسرطان الغدد الليمفاوية، وكانت خلاياه من النوع الشرس، بينما كانت جولدا تغذيها بشراهة تدخينها.
تقول التقارير الإسرائيلية المتوافرة حول الحالة الصحية لجولدا إنها كانت تدخن نحو ثلاث علب سجائر يوميًا، وهو ما ظهر جليًا فى سرد سيرتها الذاتية، حيث كانت رئيسة وزراء إسرائيل لا تستغنى عن السيجارة، حتى وهى مستلقية على سرير الفحص بالأشعة، وهو الفحص الذى كانت تذهب إليه بشكل دورى.
وكانت «جولدا» تتسلل متنكرة إلى داخل مستشفى «هداسا» من أحد الأبواب الخلفية، برفقة مساعدتها الشخصية، وتمر بغرفة الأموات «التلاجة»، والتى قبل الحرب كان يوجد بها أقل من ١٠ جثامين على سبيل المثال، حتى تصل إلى غرفة الفحص الخاصة بها.
مخاوف جولدا من مرضها كانت تتزايد مع كل فحص، لدرجة أنها طلبت من مساعدتها وعدًا بأن تبلغها حال لاحظت عليها أى علامة للخرف، فرئيسة وزراء إسرائيل تخشى أن تقع أسيرة «العجز عن الإدراك»، كما خشيت أن تقع أسيرة حرب حال وصول الجيشين العربيين، المصرى والسورى، لمنزلها فى تل أبيب، بعد تمكنهما من شن حرب وعبور القناة، لدرجة أنها أوصت مساعدتها قائلة: «إذا رمانا الأمريكان للكلاب.. ووصل العرب لتل أبيب لن يأخذونى حية.. عليكِ التأكد من ذلك» حسب ما يوثقه الفيلم.
بعد مرور أسبوع على الحرب، ذهبت جولدا لموعد الفحص الدورى، ولكن مرورها من غرفة الموتى هذه المرة مثل لها هزيمة معنوية أخرى، غير تلك الملازمة لها، فوجدت أن عدد الجثث تزايد، وكل الأسرّة الموجودة غير متاحة، لتكتشف بعدها أن حالتها المرضية بدأت تدهورًا جديدًا.
مع استمرار الحرب لأكثر من ١٠ أيام، بدأت جولدا تصاب بنوبات هلع، تحت ضغط التفكير فى كيفية وقف الكابوس الذى كان يلازمها حتى فى نومها، لدرجة أنها فقدت القدرة على الحركة فى صباح يوم ٣٠ أكتوبر، والذى كان مقررًا فيه أن تذهب لجنودها على الجبهة لرفع روحهم المعنوية، قبل الترويج لقبولها شروط وقف إطلاق النار مع مصر.
كادت جولدا تستسلم تمامًا لعجزها عن النهوض، حسب ما جسده الفيلم، وقالت إنه يمكن لقادة الجيش أن يذهبوا بدلًا منها، بينما حملتها مساعدتها الشخصية على ذلك، وسكنتها ببعض الأدوية، وبعدها توجهت «مائير» بمروحية لجنودها، والتقطت معهم عدة صور، وتحدثت عن أن الحرب لا يمكن أن تستمر بكل تأكيد، وأنه يجب أن تكون هناك أوضاع أخرى.
ازدادت حالة جولدا سوءًا يومًا بعد يوم، لاسيما مع الضغط والألم النفسى الذى عاشته يوميًا خلال متابعتها اللحظية للحرب، فكانت تسمع صراخ جنود الجيش الإسرائيلى، وتعبيرات رعبهم من الهجوم المصرى ضدهم، وبكاء الجنود وهم يستسلمون ويتراجعون فى ساحة الحرب، وانقطاع أصوات عناصر فرق كاملة بعد تعرضها لهجمات مصرية، بل وصوت الجنود المصريين وهم يأسرون جنودها، كل ذلك، بجانب سجائرها التى لا تنقطع.
تضليل أشرف مروان أفقدها توقع ساعة الصفر.. وهلع الهزيمة حوّل ديان لمجنون
بدأت جولدا شهادتها أمام «لجنة أجرانات» بالحديث عن يوم الخامس من أكتوبر ١٩٧٣، حين وافقت لـ«تسفى زامير»، رئيس جهاز الاستخبارات «الموساد»، على أن يسافر للندن للقاء «العميل»، رغم اعتقادها بأنه لن يكون لديه جديد، وأن أى معلومة عن الحرب ستكون «فقاعة هواء» مثلما حدث فى الشهور السابقة.
ورغم أنها كانت على يقين من أن الحرب ستندلع يومًا ما، فإن المعلومات المتوافرة لديها لم تكن كافية- على حد قولها- وطلبت من زامير أن يحصل من أشرف مروان، «الذى تعتقد إسرائيل أنه كان يعمل لصالحها»، على وثيقة أو أى شىء يثبت جدية معلوماته.
وتلقت جولدا اتصالًا فجرًا من رئيس الموساد يبلغها فيه بأن مروان يقول إن الحرب ستندلع مغرب يوم ٦ أكتوبر، وهو الموعد الذى لم يتبق عليه حينها سوى نحو ١٢ ساعة فقط، فى حين يعلم العالم أجمع، وليس مصر فقط، أن إسرائيل تحتاج إلى ٣ أيام للتعبئة.
آلية التعامل التى اتبعتها إسرائيل مع مروان تظهر أن الأخير ضللهم فى الأساس، فحتى ساعة الصفر التى قيل إنه أبلغهم بها كان موعدًا مزيفًا، وإن كانت هناك خطة كاملة تم نقلها إليهم، فلماذا تمسكت جولدا وقيادات الجيش الإسرائيلى بألا يوجهوا أى ضربة، وألا يقرروا إجراء تعبئة جزئية قوامها ٢٠٠ ألف جندى حتى لا تعتبر عملًا استفزازيًا من جانبهم لمصر؟
معلومة مروان المتكررة نجحت فى إرباك إسرائيل من الداخل، فليس لديهم دليل قاطع على أن ساعات تفصلهم عن حرب كبرى، وحتى الأعداد الضخمة التى حشدها الجيش المصرى تكرر مثلها على مدار أعوام فى سياق المناورات.
تعترف جولدا فى مذكراتها قائلة: «فى مايو وصلتنا معلومات عن تعزيز القوات المصرية والسورية على الحدود، لكننا مع ذلك قررنا التعامل بجدية حينها»، وتكرار معلومات مروان غير الصحيحة جعل جولدا لا تثق فيما يقوله.
واستكملت جولدا اعترافها: «يوم ٥ أكتوبر، تلقينا تقريرًا أثار قلقى بأن عائلات المستشارين الروس تحزم أمتعتها وترحل على عجل.. لماذا العجلة؟ هل هى عملية إجلاء؟ واستوقفتنى هذه المعلومة»، موضحةً أن تلك الخطوة وحدها دفعتها لحشد جزء من قوات الاحتياط بعدد ١٢٠ ألف شخص.
ودعت جولدا عددًا من الوزراء لاجتماع عاجل، ظهر فيه الخلاف بين أعضاء الحكومة وإيلى زعيرا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، بشكل فج، للدرجة التى دفعت رئيس أمان للكذب فى معلوماته.
غالبية المجتمعين رفضوا توجيه ضربة استباقية، وأيدت جولدا ذلك، واتجهت لقرار التعبئة الجزئية، لجس النبض حول مدى جدية التحركات المصرية، ولاعتقادها أن ذلك ربما يمنع الحرب.
فى ذلك الاجتماع كان واضحًا غطرسة بعض قادة الجيش الإسرائيلى، فمثلًا قال رئيس شعبة أمان إنه فعّل نظام التنصت على مصر، قائلًا: «لو كسر زجاج عند السادات لسمعته قبله!» مجددًا تعهده بأنه حال إقرار مصر الحرب؛ فسيتمكن من سماع ذلك ويبلغ الجيش والحكومة قبلها بـ٧٢ ساعة على الأقل.
بعد ساعات، اجتمعت جولدا بعدد من وزراء حكومتها مرة أخرى، وبينما يناقشون فرضية الحرب، سُمع دوى صافرات الإنذار فى تل أبيب، لتدب الصدمة فى أعماق جولدا ومرافقيها فى الغرفة، وكذلك الخوف، ويحاول رئيس أمان مواصلة غطرسته حتى الدقائق الأخيرة، فيقول لجولدا بسخرية «قبل الموعد بـ٤ ساعات»، فى إشارة إلى أنه قد يكون إنذارًا خاطئًا، حتى يرن الهاتف الثابت، ليبلغ السكرتير العسكرى بأن القوات المصرية بدأت الحرب وأطلقت صاروخًا صوب تل أبيب، والقوات السورية اشتبكت فى الجولان، ليقول أحد الحاضرين «يبدو أنه تمت مفاجأتنا!». وتبدأ حالة من السجال حول ما إذا كان فعّل رئيس أمان نظام التنصت بالفعل، وكيف أن معلومة مروان كانت خاطئة ويظهر أن هدفها هو التضليل.
محاولة جولدا التماسك بعد نبأ الحرب لم تخلُ من الصدمة، فوجهت ديان بأن يلقى خطابًا يطمئن فيه الإسرائيليين، وبعدها يشن حربًا يلقن فيها الأعداء درسًا، ويتوجه إلى الجبهة مع سوريا حتى يرى ماذا يحدث هناك على الأرض، بنيما سارعت هى لإجراء اتصال هاتفى مع هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى، الذى كان قد تسلم مهامه قبل نحو أسبوعين من الحرب.
وفشل ديان فى تلبية طلبى جولدا باستسلام شديد، فبعد أن اطلع على المعلومات الأولية بشأن الحرب ظهر فى خطاب انهزامى، واعترف فيه بأن الأوضاع صعبة على إسرائيل، وهو ما اندهشت له جولدا، وقررت أن تخرج ببيان لمنع انهيار الشارع الإسرائيلى.
ذهب موشى ديان، وزير الدفاع الإسرائيلى، بمروحية لأعلى الجبهة الشمالية، فوق هضبة الجولان السورية، يوم ٧ أكتوبر، ورأى الضربات الضخمة والكثيفة التى تتعرض لها القوات الإسرائيلية، وكيف تشتعل النيران بسرعة فيها، ليبدأ فى الارتعاش من شدة الخوف، وسارع بالعودة إلى رئيسة حكومته ليبلغها نبأ الهزيمة ومن ثم استقالته، قائلًا: «نحن خسرنا الشمال جولدا.. لقد هُزمنا بالفعل، إنها إبادة جديدة».
وقال للحاضرين فى اجتماع الحكومة إنه أبلغ مفاعل «ديمونا» النووى بالاستعداد للدخول فى الحرب، مؤكدًا أن الحل فى رد نووى، وهو ما رفضته جولدا والاستخبارات العسكرية بشكل قاطع، واصفين ديان بالمجنون.
زيارة كيسنجر مهدت لوقف إطلاق النار.. وجرأة السادات حققت السلام قبيل وفاتها بأيام
فوجئت جولدا مائير بزيارة من هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى، لمنزلها، فى زيارة لم تكن تعلم عنها أى شىء، وسط تقارير إعلامية تتحدث عن وجود تفاوض حول إطلاق النار.
وحسب الفيلم الأمريكى، برر كيسنجر زيارته المفاجئة من موسكو إلى تل أبيب، بأن الروس مارسوا تشويشًا على أجهزة الاتصال الخاصة بطائرته، فلم يتمكن من إبلاغها.
وبالفعل، منح كيسنجر بنود وقف إطلاق النار إلى جولدا، وأبلغها بأنه يجب عليها الموافقة، وحذرها من أن الروس يهددون بالدخول فى الحرب، إذا استمرت إسرائيل فيها.
وحول اتفاق وقف إطلاق النار، قالت جولدا فى مذكراتها: «شعرت بضرورة التفاوض، مع الهرب فى أى وقت ومكان يختارونه، وذلك فى مواجهة الضغط الشديد الذى سيقع علينا بهدف الوصول إلى وقف إطلاق النار.. صحيح أننى لم أستخف بحظر تصدير النفط الذى استخدمته السعودية وليبيا والكويت وغيرها ضد العالم، لكنه كان واجبًا أن نضع حدودًا معينة لتصرفاتنا، ولنكن صرحاء، فإن مصير الدول الصغيرة يعتمد فى النهاية على القوى العظمى التى دائمًا ما تكون لها مصالح تريد حمايتها».
فى النهاية، وافقت إسرائيل على اتفاق لوقف إطلاق النار، وأعقب ذلك مفاوضات كانت أمريكا فيها الطرف الثالث، ليفاجأ الرئيس الراحل محمد أنور السادات الجميع بأنه على استعداد لقبول وجود اتفاق سلام بين القاهرة وتل أبيب. «بغض النظر عمّن سيوقع من جانب إسرائيل.. أريد أن أعيش لأرى ذلك اليوم».. تلك الأمنية عبرت عنها جولدا، خلال لقاء علنى مع الرئيس السادات، والتى تحققت، حيث تم التوقيع على اتفاقية السلام الإطارية «كامب ديفيد» فى سبتمبر ١٩٧٨، لتتوفى جولدا بعدها بـ٥٢ يومًا فقط. توفيت جولدا داخل أحد مستشفيات القدس المحتلة، بعد أن سيطر عليها مرض سرطان الغدد اللمفاوية، نتيجة الضغوط الداخلية التى تعرضت لها بعد حرب أكتوبر وأدت فى نهاية المطاف إلى استقالتها.
يصور الفيلم وفاة جولدا داخل المستشفى، وهى داخل غرفة عناية مركزة، تستخدم أجهزة تساعدها على التنفس، ولا يوجد حولها سوى التليفزيون الذى يذيع نبأ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، بحضور السادات ومناحم بيجن، رئيس الوزراء الإسرائيلى حينها، لتتخلى مائير عن جهاز التنفس وتأخذ نفسًا من سيجارتها المعهودة، وتراقب لقطات من لقائها مع السادات، لتتوفى بعدها.