يجيب حمام ويطيره
تتعجب وأنت تقرأ قصة السلطان «الكامل شعبان» مع شقيقيه «حاجى» و«حسين»، فقد بدا «شعبان» رجلًا غلبته الوساوس والهلاوس، وشك فى أن شقيقيه يتآمران عليه، ويريدان خلعه من السلطنة، وبدا الشقيقان صادقين وهما يقسمان أنهما لا يتآمران، كما أن شواهد الوقت عام «٧٤٦ هجرية» لم تكن تؤشر إلى وجود مؤامرة من الاثنين ضد السلطان، بل من تآمروا ضده هم مجموعة الأمراء المحيطين به، بعد أن أدركوا حالة الطيش التى أصابت عقله، وجعلته يتخذ قرارات أدت إلى اضطراب الأحوال بالبلاد، فخلعوه وأخرجوا شقيقه «حاجى» من السجن وسلطنوه مكان «شعبان» على سرير الملك.
كان من المتوقع أن يؤدى «حاجى» فى الحكم بغير الأسلوب الذى أدى به شقيقه، لكن يبدو أنه كان مريضًا مثله، ليس بالهلاوس كما كان السلطان «شعبان»، بل بمرض أشد غرابة وهو «الهوايات»، وتحديدًا هواية «تربية الحمام»، وقد كان على أتم الاستعداد لأن ينفق مال السلطنة بحيث لا يبقى منه درهم ولا دينار من أجل الإنفاق على الحمام. وقد بدأ «حاجى» حكمه بالتخلص من كل مراكز القوى- الأمراء المماليك الذين ولوه الحكم- التى يمكن أن تحول بينه وبين هوايته، والتى قد تتهمه بالطيش إذا رأته ينفق على الحمام بهذا السخاء، فتفعل معه مثلما فعلت مع شقيقه الكامل شعبان. قبض السلطان المظفر حاجى على كبار أمراء المماليك، وجردهم من سيوفهم، وساقهم وهم فى أذل حال إلى ثغر الإسكندرية وأُودعوا السجن هناك، وحبس الخطرين منهم فى سجن القلعة، وبعد حبسهم بساعات أصدر أوامر بخنقهم ودفنهم وقد كان. يقول «ابن إياس» فى «بدائع الزهور»: «ومن العجائب أن هؤلاء الأمراء كانوا سببًا لسلطنة الملك المظفر حاجى، فأُخذوا من الجانب الذى كانوا يأمنون إليه».
تمكن السلطان «حاجى» من القضاء على فتنة نائبه على الشام «يلبغا اليحياوى»، ودفعه إلى الهروب خارجها، واستولى على أمواله. وكان «اليحياوى» صاحب ثروة كبيرة. كان من بينها ٥٠ ألف دينار من الذهب، وقعت فى يد السلطان، فاستثمرها كلها فى إشباع هوايته فى تربية الحمام وتطييره. ٥٠ ألف دينار ذهب صرفها الرجل على الحمام، فصنع له خلاخل من ذهب يضعها فى أرجله، وألواح ذهب توضع فى أعناقه، وصنع للحمام مقاصير من الخشب المطعم بالعاج والأبنوس، وخصص لغيات الحمام التى أقامها مجموعة من الغلمان يقومون على رعاية طيوره. يصف «ابن إياس» حال السلطان مع الحمام فى «بدائع الزهور» قائلًا: «وقد اشتغل بلعب الطيور عن تدبير الأمور، والنهى عن أمر الأحكام، بالنظر إلى الحمام، فجعل السطح داره، والشمس سراجه، والبرج مناره، وأطاع سلطان هواه، وخالف من نهاه، وخرج فى ذلك عن الحد، ولا صار يعرف الهزل من الجد».
حال السلطان مع الحمام لم يكن بعيدًا عن أعين الأمراء، ولا عن أعين الأهالى. فأما الأمراء فقد رابهم أمره وخشوا من تأثير انشغاله بالحمام على أدائه كسلطان للبلاد، وكان أكثرهم غضبًا من ذلك الأمير «بيبغا أروس»، وهو أحد الأمراء الذين أسهموا بقوة فى القضاء على فتنة يلبغا اليحياوى نائب السلطان على الشام، وجلب له الـ٥٠ ألف دينار الذهب التى ينفقها على الحمام. ذهب «أروس» إلى السلطان، وعنفه أشد التعنيف على تفاهته، والأمور الشنيعة التى تقع منه فى التعامل مع الحمام، فى وقت لا يجد فيه بعض الأهالى قوت يومهم، فما كان من السلطان إلا أن استمع إليه وهو ساكت، وبعد أن رحل صعد إلى سطح داره، وأمسك بما لديه من حمام وذبحه جميعه، وحطم المقصورات التى أنشأها من أجله، ثم كتب رسالة إلى الأمير «أروس» يقول له فيها: «إنى قد ذبحت ما عندى من الحمام، وأنا إن شاء الله تعالى أذبح فى القريب خياركم من الأمراء، كما ذبحت الحمام». فلما قرأ «أروس» الرسالة ذهب إلى نائب السلطنة وعرضها عليه، فما كان من الأخير إلا أن استدعى الأمراء واجتمع بهم، واتفقوا على خلع «سلطان الحمام».
وصلت الأخبار إلى السلطان حاجى، فبعث إلى أحد الأمراء الموصوفين بالعقل والحكمة، وهو الأمير شيخوا العمرى، وقال له: «امض إلى الأمراء وقل لهم: إيش قصدكم؟.. ومهما قالوه رُد علىّ الجواب».. ذهب «العمرى» إلى الأمراء وسألهم عن مقصودهم، فردوا عليه: «امض إليه وقل له: القصد أن تخلع نفسك من السلطنة، وادخل إلى دور الحرم، وصن دماء المسلمين، وكف القتال عنهم».. فلما سمع السلطان هذا الجواب علق قائلًا: «كيف أخلع نفسى من السلطنة، ما عندى لهم إلا حد السيف». وأمام هذا التحدى تحرك الأمراء وعلى رأسهم «أروس»، وحشد السلطان مماليكه، ونشبت المعركة، وإن هى إلا ساعة حتى ترنح «حاجى» بعد أن أصيب، وتم القبض عليه، وسيق أسيرًا إلى نائب السلطنة، وطلب منه الأمراء إصدار حكمه عليه بالإعدام، فرفض قائلًا: لا أقتل ابن أستاذى أبدًا، ويقصد بأستاذه والد حاجى السلطان الناصر محمد بن قلاوون. فما كان من الأمير بيبغا أروس إلا أن جر السلطان حاجى وذهب به إلى تربة عند الباب المحروق وخنقه ودفنه فيها.
مات السلطان حاجى بعد سنة وما يقرب من ثلاثة أشهر والنصف من اعتلائه سرير الملك، لكن أفعاله واهتمامه العجيب بالحمام، والذهب الكثير الذى أنفقه عليه، دفع الأهالى إلى السخرية منه، خصوصًا أنه لم يكن ينفق على فقرائهم ما كان ينفقه على الحمام. ويبدو أن المثل الذى يقول: «اللى معاه قرش محيره يجيب حمام ويطيره» خرج من زخم التجربة التى عاشها المصريون مع السلطان «حاجى»، وهو المثل الذى ظل يعبر الأجيال منذ منتصف القرن الثامن الهجرى حتى اللحظة.
كأن السفه فى الإنفاق لا يفنى ولا يستحدث من عدم.