«100 سنة هيكل».. قصة «الحوار المفقود» لـ«الأستاذ» فى ماسبيرو
أسباب عودة هيكل للمشهد السياسى فى مصر
٢١٠ دقائق هى مدة الحلقة التى سجلها الأستاذ محمد حسنين هيكل؛ لتبث فى ماسبيرو عام ١٩٩٠، وكان يفترض وفق ما خطط له وزير الإعلام وقتها، صفوت الشريف، أن تكون الحلقة التى تذيب جليد العلاقة بين الأستاذ ونظام الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، لكنها تحولت إلى كتلة لهب أشعلت فتنة كادت تعصف بأسماء كبيرة، فكان لا بد من إخمادها سريعًا، لذا جرت الإطاحة بمخرج الحلقة بعد إحالته للتحقيق، لكن المفارقة أنه تم استدعاء نفس المخرج مرة أخرى، ليعاود الاتصال بـ«هيكل».. ويطلب منه تسجيل حلقة جديدة.
فى ٢ يونيو ١٩٨٩ تم رفع علم مصر على مقر الجامعة العربية فى تونس، بعد مقاطعة عربية استمرت ١٠ سنوات منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام ١٩٧٩، وكان المشهد بداية لفصل جديد يحتاج لاستعادة الريادة المصرية فى المحيط العربى، وكان كل مؤسسات الدولة المصرية وقتها يسعى فى هذا الاتجاه، خاصة وزارتى الإعلام والثقافة، وكان يتولى مسئوليتهما صفوت الشريف وفاروق حسنى، وكلا الرجلين كان يؤمن بأهمية استدعاء الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل باعتباره رجل هذه المرحلة، وبالفعل تحرك كلاهما فى هذا الاتجاه. كان صفوت الشريف يؤمن بأهمية الفنون كقوى ناعمة، وقدرتها على حسم المهمة المطلوبة، لذا سعى بخطوات متسارعة لتهيئة المجتمع للمرحلة الجديدة، عبر شاشات ماسبيرو، وسمح بإذاعة ما كان ممنوعًا فى السابق، وخلال أكتوبر وديسمبر عام ١٩٨٩ أذيعت حلقات تحمل اسم «وقائع مصرية» من إعداد وإخراج كمال مسعود، وكانت تؤرخ وتحتفى بشخصيات لها بصمات واضحة فى مختلف المجالات، مثل شادى عبدالسلام وصلاح أبوسيف وشيخ المعماريين حسن فتحى والمخرج عاطف سالم، لكن الأهم كانت حلقة عن الموسيقار الكبير على إسماعيل، أثارت عاصفة من الإشادة، لأنها تضمنت الإفراج عن خطب جمال عبدالناصر والأغانى الوطنية التى كانت رمزًا لمرحلته، وكانت الحلقة أقرب للتوثيق للمرحلة الناصرية من خلال الأغانى الوطنية التى أصبحت جزءًا من الوجدان المصرى، لكنها ظلت حبيسة الأدراج فى عهد السادات، واستمر الأمر خلال السنوات التسع الأولى من حكم مبارك، إلى أن جرى الإفراج عنها على أيدى المخرج الشاب الذى اتصل بوزير الإعلام صفوت الشريف بعد إذاعة الحلقة ليعرف رأيه، فأبلغه بأنه معجب بكل حلقات البرنامج، ولم يكن التواصل بين المخرج الشاب والوزير صعبًا لسابق معرفته به باعتباره زميل دراسة لنجله.
كان فاروق حسنى أسرع فى الفوز بأول ظهور رسمى للأستاذ هيكل، وفى يناير من عام ١٩٩٠ جرى ترتيب ندوة للأستاذ فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وكان فى استقباله داخل القاعة وزير الثقافة، بينما احتشد داخلها وفى محيطها ما يقارب الخمسة آلاف فرد يرغبون فى متابعة ما سيقوله المحلل السياسى المغضوب عليه، بسبب مقالاته التى تنتقد النظام وتتهمه بالشيخوخة والسماح لعدد قليل بالسيطرة على ثروات الوطن، وعقب نهاية الندوة، التى استمرت من السادسة إلى الثامنة مساء، توجه أحد الشباب إلى المنصة ليصافح «هيكل»، وقدم نفسه قائلًا: «كمال مسعود.. مخرج فى التليفزيون المصرى»، وقتها رد الأستاذ قائلًا: «إنت بقى كمال مسعود.. أنا كنت فاكرك أكبر من كده».
شروط هيكل للظهور علي شاشة ماسبيرو
كان هيكل متابعًا جيدًا للأحداث الداخلية والخارجية، ولديه نهم غير عادى للوصول إلى المعلومات التى تعينه على قراءة المشهد، لذا حين طلب منه المخرج كمال مسعود تسجيل حلقة خاصة لماسبيرو، لم يعتبر الأمر مجرد صدفة أو طموح شخصى من شاب أشاد كبار الكتّاب وقتها بأعماله، لذا بادر الأستاذ بسؤال المخرج الشاب: كيف استطعت الإفراج عن خطب جمال عبدالناصر والأغانى الوطنية الممنوعة لعبدالحليم حافظ؟
أدرك كمال مسعود أن السؤال هو موافقة ضمنية من الأستاذ على تحقيق طلبه، فقرر استغلال الفرصة، وأبلغه بأنه لا يرغب فى أن يشغله عن مريديه المحتشدين فى القاعة وخارجها، وطلب منه أنه يسمح له بزيارته؛ ليشرح له الأمر بالتفصيل، وحدد له الأستاذ موعد اللقاء.
ذهب المخرج الشاب إلى مكتب الأستاذ، ودار بينهما حوار مطول عن الحلقات التى سجلها، والحلقات التى ينوى تسجيلها ضمن مشروع توثيق للشخصية المصرية فى العصر الحديث، منها حلقة باسم «الإنسان والنيل والسد»، وهى الحلقة المخصصة للأستاذ، فأبلغه «هيكل» بأنه يوافق على طلبه، لكن له شرطان، الأول أن يكتب له المحاور المطلوب مناقشتها فى الحلقة؛ ليجهز ما يحتاجه من وثائق لعرضها خلال الحلقة، والثانى أن يحضر له موافقة مكتوبة من وزير الإعلام صفوت الشريف على تسجيل هذه الحلقة.
غادر المخرج الشاب مكتب الأستاذ ليبدأ رحلة التجهيز لأهم خطوة فى حياته، وسعى للتواصل مع وزير الإعلام، وتمكن من تحديد موعد لمقابلته، وذهب إلى مكتبه، وحكى له ما دار مع الأستاذ، وخرج من مكتب الوزير بورقة تحمل توقيعه تتضمن موافقته على تسجيل حلقة خاصة لـ«هيكل» تؤرخ لمعركة بناء السد العالى، بعدها بدأ الترتيب لبدء التسجيل.
200 دقيقة في مكتب الاستاذ
فى مارس عام ١٩٩٠، عاد مقر جامعة الدول العربية إلى القاهرة، وأصبح عصمت عبدالمجيد أمينًا عامًا للجامعة، وفى ذات الوقت قرر صفوت الشريف إطلاق أول قناة فضائية مصرية، وبالتزامن مع هذا الحدث كان المخرج الشاب كمال مسعود بصحبة فريق عمل مكون من ١٤ فردًا داخل مكتب الأستاذ، لتسجيل حلقة «الإنسان والنيل والسد»، التى تحدث خلالها هيكل باستفاضة عن تجربة بناء السد العالى، وما تعرضت له مصر من ضغوط بسببها، والظروف التى دفعت عبدالناصر لتأميم القناة ردًا على مماطلة الغرب فى تمويل المشروع، وما ترتب على ذلك من أحداث ومعارك داخل مصر وخارجها، والدور التاريخى للاتحاد السوفيتى فى تحقيق حلم المصريين ببناء السد العالى، وجرى التسجيل لمدة ٣ ساعات ونصف الساعة على ٣ أشرطة، بعدها عاد المخرج الشاب إلى مبنى التليفزيون، وانهمك فى تجهيز الحلقة، وحين أصبحت جاهزة سلم النسخة النهائية تمهيدًا لعرضها.
اكتمل مشروع المخرج الشاب، لكنه لم يعرض، وظل يلح فى الحصول على إجابة عن سبب التأجيل، وكان يعتقد أن الأمر مجرد محاولة لاختيار توقيت مناسب، لكنه بدأ يشعر بأن الأمر أكبر من ذلك بكثير، فبعد أن كان يحظى بالدعم داخل مبنى ماسبيرو، أصبح يعانى من التضييق، الذى وصل إلى حد عدم توفير أشرطة لتسجيل حلقات برنامجه، بعدها وجد نفسه محالًا للتحقيق بتهمة إتلاف أشرطة المواد التراثية الخاصة بمكتبة التليفزيون، فلجأ على استحياء لبعض الكتّاب لمحاولة معرفة مصيره ومصير حلقة هيكل، وتدخل وقتها الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى، وحصل على بيانات الأشرطة المسجلة عليها الحلقة، وتواصل مع وزير الإعلام صفوت الشريف، وكانت النتيجة.. رحيل المخرج كمال مسعود عن التليفزيون.
رد الشريف وتعقيب هيكل
كان صفوت الشريف يتمتع بنفوذ وقوة كبيرين داخل نظام مبارك، لكن فى عام ٢٠٠٠ بدأ يشعر بمحاولات لتحجيم دوره، والسعى للإطاحة به ضمن قائمة وُصفت بالحرس القديم، لصالح من وُصفوا بأنهم الحرس الجديد للوريث جمال مبارك، الذى انضم للحزب الوطنى الديمقراطى، وبدأ صعوده القوى فى سلم الحزب بتوليه منصب أمين لجنة السياسات.
تزايدت مخاوف «الشريف» بسبب طريقة تفكير وأسلوب إدارة نجل الرئيس للحزب، ومحاولات السيطرة على الحكومة، وتزايدت تلك المخاوف عقب الإطاحة بوزير الخارجية عمرو موسى، أعقبتها محاولة للإطاحة بوزير الثقافة فاروق حسنى، لكن لم يُكتب لها النجاح، وبالتزامن مع هذه المحاولة أثارت المجلة القومية «نصف الدنيا» عاصفة منع «هيكل» من الظهور على شاشات ماسبيرو، ومنع إذاعة حلقة سجلها لتليفزيون الدولة بتعليمات من وزير الإعلام، وبادر وقتها وزير الإعلام بإرسال رد مكتوب إلى صحيفة «الوفد»، نشر فى ٧ مارس من عام ٢٠٠٠، يوضح فيه عدم صحة ما يتردد فى هذا الشأن، ويؤكد أن «هيكل» لم يسجل ولو دقيقة واحدة لتليفزيون الدولة.
نشر رد الوزير ونشر بجواره رد آخر بشأن ذات الموضوع، أرسله الإعلامى الكبير حمدى قنديل، وكان وقتها يقدم برنامجه الشهير «رئيس التحرير» على شاشة التليفزيون الرسمى.
وأوضح «قنديل»، فى رده، أنه كان يطمع، منذ فترة، فى إجراء لقاء تليفزيونى مع الأستاذ هيكل منذ عام ١٩٩٨ ضمن سلسلة حوارات سعى لإنجازها بمناسبة مرور خمسين عامًا على الصراع العربى الإسرائيلى، وتواصل مع الأستاذ الذى وافق على استقباله، ومنحه ساعتين من وقته الثمين، تطرق خلالهما الأستاذ لتجارب له مع التليفزيون المصرى رآها محبطة، وأوضح له أنه ربما كان من الحكمة أن يبدأ الحلقة الأولى من برنامج «رئيس التحرير» بدونه، حرصًا عليه.
وأكد «قنديل» فى رده أن كلام «هيكل» حرضه على أن يسأل صفوت الشريف عمّا إذا كان الأستاذ ممنوعًا من الظهور فى التليفزيون، وكانت الإجابة واضحة بلا لبس: «سجل معه كما شئت»، ما دفع الإعلامى الكبير للاتصال بالأستاذ؛ ليروى له ما دار بينه وبين وزير الإعلام، ليؤكد له أنه إذا ما سجلت معه حلقة وجرى منع إذاعتها فسوف يمتنع هو عن تقديم البرنامج، لكن ظل الأستاذ على موقفه من الاعتذار.
وختم قنديل رده المرسل للصحيفة بأنه ما زال عند عرضه لاستضافة «هيكل» فى برنامجه «رئيس التحرير». ظن الجميع أن فتنة حلقة الأستاذ انتهت، لكن المفارقة أن «هيكل» قرر إرسال رد إلى الصحيفة نشر فى ٨ مارس ٢٠٠٠، وكان نصه: «أبلغنى مكتبى أثناء وجودى فى زيارة عمل إلى لندن أمس بتصريح منسوب إلى صفوت الشريف، وزير الإعلام، يرد فيه على ما ذكرته فى حديث مع الصديق الشاعر الأستاذ عبدالرحمن الأبنودى نشرته مجلة (نصف الدنيا)، وقلت فيه إن التليفزيون المصرى سجل معى حديثًا عن قصة بناء السد العالى استغرق ثلاث ساعات لم يُذع منه شىء، وأنا فى العادة لا أدخل فى جدل مع أحد، ولكنى مضطر فى هذه الحالة لأن صديقًا فى وزن عبدالرحمن الأبنودى نقل عنى، ولأن مجلة فى مكانة (نصف الدنيا) نشرت له، والحقيقة أنا فى حيرة فيما وصلنى من أقوال وزير الإعلام.. ولست أجد أمامى غير ثلاثة احتمالات: أن جريدة (الوفد) وقعت فى التباس عند نقلها أقوال الوزير وهذا احتمال أستغربه. أو أن الوزير لا يعرف ما يجرى فى وزارته، بما فيه أن رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون السابق كتب إلىّ على أوراقه الرسمية وبتوقيعه فى طلب المقابلة، وأن مذيعًا ومخرجًا وثلاثة مصورين وأكثر من عشرة مساعدى إخراج وتصوير وإضاءة احتلوا مكتبى، وعلى مشهد من كل العاملين فيه لمدة نصف يوم بأكمله، لتسجيل ذلك الحديث عن السد العالى، مضافًا إلى ذلك أننى طلبت نسخة من ذلك التسجيل بعد إجرائه بشهور من ممدوح الليثى وفى حضور الرسام الشهير الأستاذ رمسيس.. وهذا احتمال أستبعده بعد احتمال أستغربه، لأن المعروف عن وزير الإعلام الحالى أنه على دراية بكل ما يجرى فى وزارته. ولا يظل هناك غير احتمال ثالث وأخير، لا أسمح لنفسى ببساطة أن أفكر فيه، وهو احتمال أن أحد وزراء الدولة قال، عارفًا أو بغير معرفة، قاصدًا أو بغير قصد، كلامًا مرسلًا بغير تدقيق».
واختتم «هيكل» رده قائلًا: «هناك ملاحظة أخيرة حول ما نُسب للوزير ونشرته (الوفد) فى عناوينها إظهارًا وإصرارًا، ومؤداه أن التليفزيون المصرى لم يسجل معى دقيقة واحدة، والمشكلة هنا أننى لست متأكدًا إذا ما كان ما نُسب للوزير فى هذا الصدد يشير إلى شىء فاته ويأسف عليه أو يشير إلى شىء فاتنى وآسف عليه، وهذا سؤال أترك الإجابة عنه للناس، وكتبت إليكم ما كتبت متفهمًا أكثر منه شاكيًا، فليس عندى ما أشكو منه».
المحاولة الثانية لاستدعاء هيكل
فى عام ٢٠٠٢ كانت تسود داخل أروقة نظام مبارك حالة من الغضب ضد «هيكل»، بسبب تصريحاته خلال ندوة استضافتها الجامعة الأمريكية، وتحدث فيها صراحة عن محاولات توريث الحكم لجمال مبارك، وهى الندوة التى بثتها قناة «دريم» على الهواء، وأعادت بثها مرتين بعد انتهائها، ووقتها قرر وزير الإعلام القيام بمحاولته الثانية لاستدعاء «هيكل» إلى المشهد السياسى.
فى عام ٢٠٠٣ فوجئ كمال مسعود، مخرج الحلقة الممنوعة، باتصال تليفونى من حسن حامد، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون وقتها، وأبلغه بأنه كان من المعجبين بحلقات «وقائع مصرية»، ويرغب فى عودتها، واقترح عليه أن يقدم حلقات جديدة ذات بُعد عربى، ترصد ما قدمته مصر لخدمة قضايا الأمة العربية، ووعده بتوفير كل ما يحتاجه، واقترح المخرج الشاب بأن يستعين فى هذه الحلقات بالأستاذ هيكل، وحصل على الموافقة. تواصل المخرج الشاب مع الأستاذ، وعاود طلبه بتسجيل حلقة جديدة معه لماسبيرو، فسأله «هيكل» عن مصير أشرطة الحلقة السابقة، وأبلغه بأنها اختفت، فاعتذر الأستاذ عن تلبية طلب المخرج الشاب هذه المرة، وأبلغه بأن قناة «دريم» تعاقدت معه على حوار مطول يحكى فيه تفاصيل حياته، وقد جرى تصوير الحوار بعدها بوقت قصير، لكنه لم يُبث، واختفت أشرطته أيضًا، ووجّه الكثيرون أصابع الاتهام ضد صفوت الشريف باعتباره من سعى لمنع ظهور «هيكل» على شاشات التليفزيون فى مصر.