رسالة إلى «أمل» الليبية
قبل أيام، وخلال احتدام العاصفة دانيال التي أودت بحياة آلاف الليبيين، ومئات المصريين، في مدينة درنة شرق البلاد، أوجع قلبي إدراج قرأته على فيسبوك، تقول فيه الزميلة الصحفية الليبية الشابة أمل الزادم: "محنتنا هذه أثبتت أن أشقاءنا العرب في وسعهم إرسال طائرات حربية فقط لليبيا".
شعرت بالخجل كغيري من الملايين الذين يعيشون في عالم عربي مزقته الحروب والنزاعات المسلحة، وانتشار الجماعات الإرهابية، وهي حالة لا تعود لما بعد الربيع العربي فقط، لكنها أبعد من ذلك بكثير، ويمكن بدء رصدها في الألفية الثالثة منذ الغزو الأمريكي- البريطاني الهمجي للعراق، وبداية انهيار المجتمعات العربية، وانتشار الميليشيات المذهبية المتطرفة، وسيطرتها على مساحات كبيرة من جغرافيتنا العربية.
كانت مياه الفيضانات الهادرة تسحب جزءًا من روحي مع كل قتيل، وتحرق جزءًا من كبدي مع كل بيت يتهدم، لكن أثلج صدري قليلًا، مع اعتمال نيران الحسرة على إخوتنا الذين قضوا في الكارثة المدمرة، رؤية عربات الإسعاف المصرية التي تحوي وحدات عناية فائقة، وكذلك المستشفى الميداني، ومعدات التنقيب عن الضحايا والمفقودين، وحاويات النقل الثقيل التي تحمل ألف طن من المساعدات الطبية والغذائية، قبل أن تتوجه غربًا، صوب إخوتنا المنكوبين، تعبيرًا عن الترابط المصري الليبي الذي حير القوى الاستعمارية قديمًا وحديثًا.
لم تكن مصر من الصامتين، ولم تكن من الإخوة "غير الأشقاء" يا أمل. بل كانت استجابتها الفورية للأزمة مثالًا حيًا على اختبار شعارات العروبة والتآخي والمصير المشترك.. هبت مصر التي تعاني أزمة اقتصادية يعرفها القاصي والداني، وتقاسمت طعامها وما تملكه من معدات طبية حين فرضت الضرورة ذلك مع الإخوة الليبيين، الذين تربطنا معهم علاقات صداقة ومصاهرة وروابط إنسانية لا تستطيع الأبواق المأجورة ولا القوى الإقليمية الطامعة في الثروات الليبية أن تؤثر عليها بالسلب، حتى في أصعب لحظاتنا الاقتصادية.
لا تزال آثار الأسلاك الشائكة التي بناها الاستعمار الإيطالي على الحدود بين ليبيا ومصر شاهدة على شهامة المصريين، وإرسالهم السلاح والرجال للمساعدة في المقاومة العظيمة لتحرير التراب الليبي بقيادة عمر المختار من دنس الإيطاليين، ولا تزال دماء الذين قضوا في كارثة درنة من المصريين دليلًا جديدًا على وحدة المصير بين الشعوب العربية. وتضاف الإمدادات المصرية الأخيرة للمساعدة في التغلب على آثار العاصفة دانيال إلى سلسلة التضامن المصري- الليبي وقت الأزمات، وأن مصر الكبيرة تترفع عن الدخول في مهاترات السياسة حين تدق ساعة الواجب.
حتى وإن كانت في كلام أمل حقيقة مؤلمة عن طبيعة العلاقات العربية- العربية في زمن الاستقطاب والتنازع الذي كاد يذهب بريحنا، إلا أن مصر تغرد كالعادة خارج السرب، وتضرب الأمثلة في ضرورة التآخي العربي، والتعاون في مواجهة الأزمات، دون انتظار الشكر، لأن من يقوم بالواجب تجاه أخيه لا ينتظر الشكر أبدًا، لكنه يتطلع لمزيد من المتانة في العلاقات، والاصطفاف في مواجهة الأزمات.
أتمنى كمصري حريص على مستقبل أفضل لكل الأقطار العربية، أن يستفيق الأشقاء في ليبيا من تأثير مخدر الانقسامات السياسية والمناطقية، وأن يكون الإعصار دانيال والكارثة الكبرى التي خلفها، جرس إنذار لضرورة توحيد مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية والأمنية، وعدم انتظار الحل السياسي من أية أطراف خارجية، فلكل جهة منخرطة في ليبيا أجندة تريد تنفيذها، أو أطماع تريد تحقيقها، وإذا لم توحد الأرواح التي ارتقت إلى بارئها في درنة الفرقاء السياسيين، فعلى ليبيا السلام، ولن تكون آخر الأحزان، وفي كل الأحوال لن تتوقف مصر عن القيام بما تمليه واجبات الأخوة القائمة على فلسفة المصير العربي المشترك.