الهارب إلى «المئذنة»
حكاية عجيبة ارتبطت بمسجد "أحمد بن طولون"، وتحديدًا بمئذنة المسجد، التى مثلت فى لحظة من لحظات التاريخ مخبأ لواحد من أمراء المماليك، قاد عملية اغتيال كبرى ضد السلطان الأشرف خليل. ارتباط الحكاية بالمسجد الشهير تبدو طبيعية، إذا أخذنا فى الاعتبار أن هذا المسجد ارتبط به- منذ نشأته- العديد من العجائب، وبات فى الوجدان المصرى العام موضوعًا للعديد من الأساطير الشعبية التى تناقلتها الأجيال.
أحمد بن طولون بانى المسجد كان فى حد ذاته شخصية عجيبة، يكفى أن نشير فى هذا السياق إلى الإحساس الذى صاحبه طيلة عمره بأنه مدفوع إلى ما يفعل، وأنه يصنع ما يصنع فى حياته من مظالم وهو مغلوب على أمره من قوة أكبر منه. ذات يوم دعا الأمير "أحمد" الشيخ أبا الحسن بن حماد وكان من كبار العلماء، ارتجف الأخير وخاف من اللقاء، لكن لم يكن منه بد.
تحرك العالِم إلى الأمير الراقد فى خلوته ودخل عليه، مر وقت طويل حتى تنبه الأمير إلى وجوده، نظر إليه ثم أجلسه وسأله: ما تقول فى هذه المسألة؟، فرد العالم: يقول الأمير أيده الله بنصره، فقال: ما تقول فيمن سُلّط على شىء ففعله؟.. هل يُعذّب عليه؟. قال أبوالحسن: فعلمت أن المسألة ناشئة عنه، فقلت على الفور: لو كان كل مُسلّط مُعذبًا لكان ملك الموت أشد الناس عذابًا يوم القيامة، فلما سمع الأمير ذلك استوى جالسًا وقال: كيف قلت؟ فرد العالم: لو كان كل مسلط معذبًا لكان ملك الموت أشد الناس عذابًا يوم القيامة. سكت "ابن طولون" طويلًا ثم صرف أبا الحسن، وبعث فى أثره بمن يحمل له 100 دينار.
فهل كان الأمير حسام الدين لاجين، الذى اختفى فى مئذنة مسجد "ابن طولون"، مدفوعًا هو الآخر فى مؤامرة الاغتيال التى قادها ضد السلطان الأشرف خليل؟ وهل كان مدفوعًا وهو يطيح بسلطان آخر من بعده كان له الفضل فى إنقاذه من القتل بعد مؤامرة الاغتيال؟
قرار اتخذه السلطان الأشرف خليل بن قلاوون كان سببًا فى اغتياله، حين استبعد مجموعة من الأمراء من العمل فى البلاط القلاوونى، كان من بينهم حسام الدين لاجين، فذهبوا إليه وتشفعوا عنده، وتذللوا له حتى يعودوا إلى مواقعهم، ففعل. بعدها استغل كل من "لاجين" والأميرة "بيدار" إحدى خروجات الأشرف خليل لصيد الحمام، وقاما باغتياله. اقترب منه "بيدرا" أحد أمراء المماليك الذين تعودوا على الغدر، وفاجأه بضربة سيف أطارت يده، ولم تقتله، فصرخ فيه حسام الدين لاجين، وأبعده بيده، ثم هوى بالسيف على هامته فقوضها، وسقط الأشرف خليل.
بعد اغتيال السلطان اجتمع الأمراء وقرروا تولية أخيه الناصر مكانه، وقد بدأ الأخير رحلته فى الحكم بالانتقام من قتلة شقيقه، فقتل الأمير بيدرا، وتم القبض على عدد من الأمراء الآخرين الذين شاركوا فى المؤامرة، وتم تقييدهم وأُودعوا فى سجن القلعة لمدة ثم أُعدمِوا. الوحيد الذى أفلح فى الفرار من يد الناصر قلاوون كان حسام الدين لاجين، وقد اختبأ فى مكان لا يخطر على بال أحد، حيث فر إلى مئذنة مسجد أحمد بن طولون واختبأ بها، وكان المسجد، كعهده فى الكثير من العصور، مهجورًا لا يدخله المصلون، إلا نادرًا، وقد ارتبط هذا الأمر بأسطورة موروثة عن أحمد بن طولون، حيث ردد البعض بأن بانيه شيّده من مال حرام، حصل عليه من كنز فرعونى عثر عليه ووجده مليئًا بالذهب، وكان "ابن طولون" من المغرمين بالبحث عن المطالب أو الدفائن الفرعونية.
ظل "لاجين" مختفيًا فى مئذنة مسجد "ابن طولون" عدة شهور، حتى تمكن الأمير "كتبغا" نائب السلطان الناصر من إنقاذه، حين أحضره وقابله به، وشفع له عنده، فعفا عنه، وعيّنه مقدمًا على ألف من المقاتلين، وحين تسلطن كتبغا على سرير السلطنة قرر تعيين حسام الدين لاجين نائبًا له على السلطنة، وهو نفس المنصب الذى كان يتولاه كتبغا قبل التسلطن. كل هذه الجمائل لم تثمر شيئًا عند لاجين، فلم يراع للرجل الذى أنجاه من الموت ودفع السلطان الناصر إلى العفو عنه حقه، إذ سرعان ما انقلب على السلطان كتبغا، وقد رتب للأمر جيدًا، إذ سعى فى البداية إلى القضاء على الأمراء المساندين للسلطان، واستولى على مال الدولة، واستغل فرصة صحبته للسلطان كتبغا فى سفر إلى دمشق، فترك "كتبغا" هناك وعاد إلى مصر، وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد. وهكذا انقلب "لاجين" على ولى نعمته، بعد سنة و10 أشهر فقط من جلوسه على سرير السلطنة.
كان أول شىء فعله لاجين بعد أن تسلطن على مصر أن اتجه إلى تعمير المسجد الذى اختفى فى مئذنته، وكان سر نجاته من القتل بعد أن اغتال الأشرف خليل، فقام بترميمه وتجديده، وعمر فى سطحه برسم الميقاتية لمعرفة الوقت، وأحيا رسوم الجامع بعدما كان خرابًا، وأنفق على هذه الأعمال أموالًا كثيرة من ماله الخاص، وكأنه يرد المعروف للمكان الذى آواه.
ربما كان المثل المصرى "من قتل يُقتل ولو بعد حين" مستخلصًا من حكاية السلطان حسام الدين لاجين، الرجل الذى شارك فى مؤامرة قتل السلطان الأشرف خليل قلاوون، وأطار السلطان "كتبغا" من السلطنة وجلس محله، فقد وجد "لاجين" فى الختام من يدبر لقتله، بل وينجح فى ذلك. حدث ذلك فى يوم شديد الحرارة كان "لاجين" صائمًا فيه، فتوجه إلى القصر الكبير يتنسم فيه الهواء، فأقام إلى المغرب، وفطر هناك، بصحبة قاضى القضاة حسام الدين الرازى وشيخ العرب يزيد، ثم جلس يلعب الشطرنج. استغل الأمراء المماليك الأشرفية "تلاميذ الأشرف خليل" الفرصة، ورتبوا أمرهم مع حجاب القصر، ولما دخل وقت صلاة العشاء، قام السلطان يصلى فباغته أحدهم بضربة أطارت يده، حاول أن يلملم أشلاءه ويدافع عن نفسه، لكن المماليك الأشرفية تكاثروا عليه وأعملوا فيه السيوف وقتلوه.
كأن فكرة أن "المكانة خوانة مهما وفت" لا تفنى ولا تستحدث من عدم.