انتحار بـ«فص ألماس»
عبر التاريخ ارتبط اسم «مدينة دمياط» بالعديد من الأحداث الجللة، تلك المدينة الساحلية البديعة التى اكتسب أهلها العديد من ملامح شخصيتهم من الطبيعة الساحرة التى نحتت بأناة وعبقرية خريطة المكان الذى تقع عليه المدينة من أرض المحروسة. يأتى على رأسها تلك الحادثة التى يصفها «ابن إياس» فى «بدائع الزهور» بأنها من «الوقائع العظيمة التى لم يقع مثلها قط بالديار المصرية» وكانت فى سنة ٥٦٤ هجرية.
فى تلك السنة فوجئ أهالى دمياط بما يقرب من ٧٠ مركبًا من مراكب الفرنج ترسو على شاطئ المدينة، وداخل كل مركب مئات المقاتلين الذين تدفقوا إلى المدينة وتمكنوا من الاستيلاء على الثغر، ثم أعملوا آلة الانتقام فى الأهالى، فنهبوا أسواقها، وقتلوا أهلها، ثم زحفوا إلى داخل المدينة، فاكثروا القتل والسلب والأسر. ومن دمياط زحف الفرنج إلى بلبيس، ومنها إلى الفسطاط ثم القاهرة، يقتلون من يجدون فى طريقهم، وفرضوا على الأهالى أموالًا كثيرة، تعسفوا فى جبايتها.
فى ذلك الوقت كان حاكم مصر هو آخر خلفاء الدولة الفاطمية: «الخليفة العاضد»، أما وزيره ومدبر أمر خلافته فكان الوزير «شاور». وقد تشاور الاثنان حول ما يتوجب فعله فى مواجهة هذا الزحف، واستقرا على تطبيق نظرية الأرض المحروقة، فاقترح «شاور» حرق مدينة الفسطاط ووافقه «العاضد» الضعيف على ذلك، وقد كان، حين قامت مجموعة من العبيد بإضرام النار فى بيوتها ودكاكينها، وظلت مشتعلة لمدة شهرين، وكانت النتيجة فرار الأهالى من «الفسطاط» إلى القاهرة، وارتفع سعر الركوبة حينذاك، ووصل سعر انتقال الأسرة على جمل ١٠ دنانير ذهب. تحولت «الفسطاط» فى هذا العام إلى أثر بعد عين، وهى المدينة التى بناها عمرو بن العاص، واتخذها مقرًا للحكم بعد أن تمكن من فتح مصر عام ٢٠ هجرية.
لم يغير حرق مدينة «الفسطاط» من الأمر شيئًا، فقد ظل الفرنج مسيطرين على مصر، وبات «العاضد» الخليفة الفاطمى مجرد صورة باهتة لواقع شديد المأساوية، وقد وجد نفسه مضطرًا إلى اللجوء إلى نورالدين الشهيد حاكم الشام، بعد أن باتت البلاد فى حالة فوضى كاملة، وتضجر الأهالى من الأمر بشدة. أرسل «العاضد» إلى «نورالدين» شعور نسائه وبناته ومعها رسالة يقول له فيها: «أدركنى واستنقذ نسائى من أيدى الفرنج»، ووعده بدفع ثلث خراج مصر إذا استجاب له، وهو ما كان، إذ حرك «نورالدين» قوات إنقاذ تحت قيادة قائده العسكرى «أسد الدين شيركوه» وهو عم صلاح الدين الأيوبى، فلما دخلوا البلاد، خاف الفرنج، ورحلوا.
بدأ «شيركوه» بعد رحيل الفرنج رحلة تأديب للمتهمين بالتسبب فى دخولهم إلى البلاد، فأمر بشنق الوزير «شاور»، بعد أن أعلن عن أنه كان متواطئًا مع الفرنج وأنه كان يراسلهم فى الخفاء، وكانت خيانته سببًا فى دخولهم البلاد، استوعب «العاضد» هذه الضربة، وولى «شيركوه» وزيرًا للبلاد مكان «شاور»، وإن هو إلا شهر والثانى حتى استيقظ الأهالى على خبر وفاة «شيركوه» وفاة مفاجئة، ليحل محله صلاح الدين الأيوبى ابن شقيقه وزيرًا للدولة، وعلى يد صلاح الدين الأيوبى ضاع «العاضد» وانتهت الدولة الفاطمية ككل.
فمنذ اليوم الأول لتوليه السلطة وضع «صلاح الدين» الخليفة «العاضد» فى موضعه كمجرد صورة باهتة لماضٍ عريق صنعه الخلفاء الفاطميون الأقوياء، وضاع على يد ضعافهم. اتخذ الوزير الجديد قرارًا بإبطال الأذان الشيعى: «حى على خير العمل» وعزل القضاة الشيعة وولى قضاة شافعية محلهم، وكان يشعر بقدر كبير من التوجس من ردود أفعال المصريين على هذه الخطوات، لكن شيئًا لم يحدث، ثم جاءته التعليمات من الشام بعد ذلك بقطع الدعاء فى الخطبة للخليفة «العاضد» فى مصر وأعمالها، وأن تقام الخطبة باسم الخليفة العباسى «المستضىء»، ورد «صلاح الدين» على هذه التعليمات برسالة بعث بها إلى نورالدين الشهيد يقول فيها: «إن عساكر القاهرة لا تطاوعنى على ذلك». وكان يقصد القوات الشيعية المتحلقة حول «العاضد» وكان تعدادها يزيد على ٥٠ ألف مقاتل.
ظنى أن الخوف حينها لم يكن من الأهالى من المصريين أن يغضبوا للخروج من المذهب الشيعى ليعودوا إلى المذهب السنى من جديد، خصوصًا أنهم لم يبدوا أى رد فعل حين ألغى الأذان الشيعى، وتمت تنحية القضاة الشيعة، بل كان من العساكر المؤمنة بالمذهب الفاطمى «الشيعة الإسماعيلية»، وقد حسم إصرار «نورالدين» الأمر، وفى أول صلاة جمعة بعد وصول رسالة الحسم، أُقيمت الخطبة باسم الخليفة العباسى، وعادت مصر إلى المذهب السنى، دون أى تحرك أو حتى غضب من الأهالى العاديين، الذين تعودوا التقلب على الأديان، ثم على المذاهب، لأن المهم بالنسبة لهم فى كل الأحوال هو «لقمة العيش» و«الاستقرار».
ولما وصل الخبر إلى بغداد بقطع الخطبة باسم الفاطميين فرح أهلها، وعُلقت الزينات، وأُقيمت الاحتفالات بعودة مصر من جديد إلى الخلافة السنية، بعد ما يزيد على ٢٠٠ عام من التشيع، عاشت فيها القاهرة معزولة بشكل كامل عن بغداد، عاصمة الخلافة العباسية. ويذكر «ابن إياس» أن «العاضد» لما سمع بقطع الخطبة عنه، حصل له غاية القهر، وابتلع فصًا من ألماس، ومات منتحرًا حسرةً على ضياع مُلك آبائه وأجداده، ولم ينشغل المصريون بالحدث، وانصرفوا كعادتهم إلى البحث عن لقمة العيش، بعد أن خلعوا ثوب التشيع وارتدوا ثوب التسنن.
وكأن البحث عن لقمة العيش فى حياتنا لا يفنى ولا يستحدث من عدم.