واهب الحياة
حكايات الخليفة الفاطمى الثالث «الحاكم بأمر الله» مع المصريين كثيرة، تستطيع أن تقول إنه ضمن قلة من الحكام استطاعت أن تنغمس بشكل كامل فى حياة المصريين، ورغم ما يحكى فى حقه من حكايات مثيرة وقصص غريبة، يستخدمها بعض المؤرخين فى تشويه صورته، بسبب مذهبه الشيعى، فإنه تميز كحاكم بالحسم فى اتخاذ القرارات والتعامل الجاد مع المشكلات وإيجاد حلول غير تقليدية لها. يشهد على ذلك موقفه حين شح ماء النيل فى عصره. ولعلك تتفق معى فى أن حكاية المصريين منذ فجر التاريخ، هى ببساطة حكاية النيل، فحين يعلو ويفيض يسعدون، وحين يقل ويشح ماؤه يضربهم الوجع والحزن وتتعدد مآسيهم، فهو بالنسبة لهم واهب الحياة.
ظاهرة عجيبة واجهها المصريون مع النيل خلال فترة خلافة الحاكم بأمر الله. فقد ثبت النيل على منسوبه على مدار عدة سنوات متتالية، فبات لا يزيد ولا ينقص، ما كان يعنى من وجهة نظر الناس أن شيئًا غريبًا يحدث، وأن الماء الذى يفد إلى النيل كل سنة يعادل فقط ما يستهلكه الناس منه، وبالتالى يبقى على حاله، ولا يزيد ويفيض كما كان يحدث فى بعض السنوات، ولم يكن من سبب لذلك فى نظر الناس إلا الحبشة، وأنهم فعلوا شيئًا، يمثل السر فى ذلك، فمن عندهم ينبع النيل وتتدفق النسبة الأكبر من المياه التى تجرى بين شاطئيه، قال المصريون للحاكم بأمر الله: «الحبشة حيروا مجرى النيل»، أى فعلوا شيئًا فى مجرى النيل يحول دون وصول مائه إلى مصر بالكمية المعتادة.
فى ذلك الوقت- أحدثك عن سنة ٣٧٤ هجرية- كان لبطريرك الأقباط فى مصر موقع كبير لدى الحاكم بأمر الله، ومكانة كبيرة لدى أهل الحبشة وبطريركها، بحكم تبعيته للكنيسة المصرية، طلب «الحاكم» من البابا السفر إلى الحبشة فى مهمة رسمية لبحث ما يحدث هناك، ويؤثر على ماء النيل فى مصر، ففعل وتوجه البابا إلى هناك، ودخل على ملكهم، فقابله بحفاوة وترحاب كبيرين، وسأله عن مقصوده، فعرفه أن النيل قد نقص، ولم يزد فى مصر شيئًا، وقد أضر ذلك بأهلها أشد الضرر، فأمر ملك الحبشة بفتح سد عندهم، كان يحول دون جريان ماء النيل إلى مصر. كأننا أمام مشكلة قديمة متجددة تحاول فيها إثيوبيا «الحبشة» التحكم فى حصة مصر من ماء النيل، عن طريق إقامة سد، تمنح أو تمنع المصريين الماء من خلاله، وكأن مصر تحاول دائمًا أن تجد حلًا وديًا مع الأحباش لهذه المسألة، جوهره فى العديد من العصور استغلال تبعية الكنيسة الحبشية للكنيسة المصرية.
نجحت مساعى بطريرك المصريين فى حل المشكلة، وأمر ملك الحبشة بفتح السد، إكرامًا للبطريرك، وتدفق الماء إلى مصر، فزاد النيل فى تلك السنة زيادة قوية، حتى أوفى، وفرح المصريون بذلك فرحًا كبيرًا، لكن ما هى إلا سنة والثانية حتى تجدد أمر شُح ماء النيل، ودخل المصريون فى أزمة كبرى وأحزان كبيرة، وكأنه مكتوب عليهم أن ترتبط أفراحهم وأحزانهم بالنهر العظيم. تعقدت أمور المعيشة نتيجة شُح النيل بسبب الغلاء الذى ضرب الأسواق، خصوصًا أسواق الغلال، إذ قل المعروض منها بصورة ملحوظة، ومن كان لديه بعض منها كان يختزنه فى بيته، أو فى دكانه، توقعًا للمزيد من الارتفاع فى أسعارها. كل يوم يمر كان يحمل تعقيدًا أكبر وليس حلًا للمشكلة، حتى ضج الناس، فتجمعوا وساروا نحو قصر «الزمرد» وتزاحموا تحت شباك «الحاكم بأمر الله» حتى خرج لهم، وشكوا له معاناتهم بسبب الغلاء وشح الغلال.
لم يتطلب الأمر وقتًا طويلًا حتى وصل الحاكم بأمر الله إلى قرار حاسم، فقد صمت قليلًا، ثم توجه إلى المتجمهرين قائلًا: «إذا كان الغد أتوجه إلى جامع راشدة- جامع بناه الحاكم- وأعود، فإن وجدت فى طريقى مكانًا خاليًا من الغلة، ضربت عنق صاحب هذا المكان على بابه». عاد المتجمهرون أسفل قصر الحاكم إلى بيوتهم وأخبروا كل من وجدوه فى طريقهم بالقرار الذى اتخذه الخليفة، حتى انتشر الخبر فى كل اتجاه. وفى اليوم التالى غادر «الحاكم» قصر «الزمرد» وأخذ طريقه إلى جامع «راشدة» فإذا الطريق مفروش بالبشر الذى يضعون ما لديهم من غلال أمامهم ويعرضونها للبيع، فاشترى كل من يريد حاجته. يقول «ابن إياس»: «فلما رجع من جامع راشدة، وجد الغلال قد امتلأت بها الطرقات، وشبعت أعين الناس».
لقد أصدر الحاكم قرارًا حاسمًا بمنع أى صاحب غلال من تخزينها فى البيوت أو الدكاكين، وأمر بأن تعرض كل حبة غلة فى الأسواق لمن يريد الشراء، ولم يكتف بذلك، بل تدخل فى فرض سعر «جبرى» على الأنواع المختلفة من الغلال، لا يزيد ولا ينقص، ونتيجة ذلك هدأت الأوضاع التى اضطربت بسبب شح النيل وندرة المعروض من القمح والذرة وغيرهما مما يحتاج إليه المصريون، واستقرت الأمور.
كان «الحاكم» شديد البأس، إذا أمر بشىء لم يرجع عنه، ولا يستطيع أحد أن يصده عنه، وبقدر ما ارتبطت بسيرة هذا الرجل من حكايات عجيبة ومثيرة هدفها فى المجمل التقليل من قيمته، إلا أن المدقق فى قراءة بعض تفاصيل تجربته فى حكم مصر سوف يلاحظ ما كان يمتاز به من عزم وحسم، وقدرة على صناعة القرار، وتفعيله فى الواقع، وإيجاد حلول مبتكرة للمشكلات التى يعانى منها المصريون فى عصره، وأخطرها التهديدات الحبشية للمصريين عبر إنشاء سدود على مجرى النيل تحول دون تدفق مائه بالقدر الكافى إلى المصريين.
كأن الخطر على ماء النيل لا يفنى ولا يستحدث من عدم.