أطياف يوسف فاخورى.. «جو»: أنا فخرانى شقيت لونى بلون الطين وسافرت فى الزمن
.. ويوسف فاخورى قاص وروائى خارج حسابات المجايلة، لا ينتمى لشلة أو جماعة؛ فقط يفعل ما يحب فى تؤدة، لا يتصارع على شىء، يبدع خارج دواليب التنميط. وفى مسيرته الإبداعية التى تمتد منذ السبعينيات وحتى الآن قدم أربع مجموعات قصصية؛ «حكاية الغريب الغَرَّابى، فَرْد حمام، كانت تعترف لى، تانجو»، ورواية وحيدة هى «فتنة اللحظات الأخيرة». ومَن يقترب من «جو» كما يطلق عليه محبوه، يعرف أنه عاشق للتاريخ؛ بمعنى أنه متبحر فيه فقد كان اختياره منذ البداية، درسه على يد أساتذة علم التاريخ بجامعة عين شمس، وهو صاحب رؤية فيه، ويُعد كتابُه «التاريخ الإنسانى للسد العالى» نموذجًا للتناول التاريخى للمشروعات الوطنية الكبرى، وفضلًا عن ذلك له كتاب «الإيروتيك- دراسة تاريخية أدبية». وهنا محاولة للاقتراب منه عبر عالمه الإبداعى.
ربما ليس ليوسف فاخورى جسد كالذى نعرفه، فقد تلمس يوسف لكن من المستحيل أن تدرك جسده؛ «ذلك أن جسده لم يكن إلا وسيلة للحركة»، هو «يحس دومًا وجعًا فى أن يكون هذا جسده، كثيرًا ما كان يندهش ويسأل نفسه: أهذا حقًا جسدى؟ إحساس دائم يستقر بأعماقه أنه يسكن جسده، وأنه لا بد أن يقيم فيه، وأنه يرغب لو يغادره، يغيم أحيانًا، يتبدى أحيانًا، لكنه لا ينقضى»، فهو خفيف جدًا، يمتلك كثافة شفيفة، وصدقًا حادًا تحنو عليه مسحة من غموض، تلمحه واقفًا وما هو بواقف، وجالسًا وما هو بجالس، حريصًا على ألا يزعجك، هو هادئ، وقور، مرح، سريع الحركة، غير مرئى، ويتحدث لكن يصعب أن تضبطه متكلمًا، وفى حضرته تشعر بوجودك متجليًا حتى لو كنت فردًا فى الجمع الغفير، وللدرجة التى تشعر معها بأنك كائن خفيف ولطيف يملؤك الحب وتفيض به على الآخرين، لكن بمجرد أن يغيب يوسف أو «جو» كما يناديه أحبابه، سوف تنتابك الوحشة..
يوسف.. «أريد أن أتعرف عليك».
نعم.. ليس ليوسف جسد، أنا أراهن على ذلك، رغم أن طيفه يلوِّح بعكس ذلك، هو يصرخ: «لى رأس ورجلان ويدان مثلكم. انظروا؛ هذه عينى، ولى صوت يثقب آذانكم، وسمعٌ يلتقط الهمس، لكنى أبحث عن اسمى»، إن فى التلويح بالمادى هنا لتأكيد على مأزق وجودى يكتنف الإنسان، ليس بالضرورة مأزق روحى خالص، ولا مادى خالص؛ «تلك المشاكل كانت تذوب وتتباعد ويتداعى مكانها شىء أثيرى، يفصله عن وجوده المادى إلى عالم مغلق عليه، ليس هو عالم الروح، أبعد من ذلك، وأكثر التصاقًا بنفسه، شىء سائل وهفيف لا يدرك بالعين»، إنه الحيرة بين هذا وذاك، وإنه التماهى بين هذا وذاك، وإنه كل هذا وذاك؛ «كنت على يقين أن فى قلب الطوفان نقطة ضوء، من يمسها ينجو/ لم أدرك الزمن، يغيب ويعاود؛ حتى لم يعد زمنًا، صار إيقاعًا خفيًا بلا صوت، إيقاع الصمت الذى فناؤه فى ذاته يتوالد، ويمتد بلا انتهاء أو ابتداء».
ذلك المأزق ربما انسحب على يوسف نفسه على المستوى الشخصى لكنه تجاوزه أو اجتازه؛ «أخذ يتأمل العلاقة بين جسده وعمره، اكتشف أنه لم يستطع أن يرى ملامح تطور جسده، كل التطورات تمر عبر الذاكرة»، ثم «لا بد أن يكون للوجود معنى أكبر من مجرد تفاهة تلك الأشياء»، وسوف تجد تجليات هذا فى ملامح «جو» التى من العسير عليك أن تحدد هل هى لطفل بينما يسكنها طيفُ عجوزٍ أقل ما يوصف به أنه كائن خرافى قديم ومعتق، أم هى فعلًا لعجوزٍ يسكنه طيفُ طفلٍ لطيفٍ، لم تنبت أسنانه بعد، وتضعك ابتسامته فى عالم ٍخالٍ من التمييز، لا وجود فيه لثنائيات من قبيل المادى والمعنوى، الواقعى والمتخيل، الجسدى والروحى، إذ تمنحك تفاعلًا تتوالد منه حالة دمج فريدة، تقترب من الإحساس بالرضا تجاه النفس والآخر، وتدفعك إلى ضحك متواتر وممتع، ولا تدرى لماذا هو من القلب؟!؛
«الوش لا عجوز ولا شبابى، تطلع له تلقاه شاب، تزوم تلقاه عجوز حسب الشمس ما تشرق، حسب الضل ما يوارب، الجسد إلهى الطلعة، كل ما يبعد يكبر لحد ما يطاول حضن السما، وكل ما يقرب يصبح إنسانى».
إذن.. الحكاية فيها إنّ.. وإنَّ هنا تفتح باب التأويل؛ «كان الزمان وكنت وكان، الابن ولا الضى، الشمس ولا ضحاها، الروح ولا سناها، خلق الرب الدنيا فى ستة أيام، خلقت عمرى، وكان الزمن حلمى، وكان وكنت فخرانى، م العتمة شقيت لونى بلون الطين وسافرت فى الزمن ودرت».
الحكاية تتجاوز إشكاليات الجسد لكنها لا تسقطها؛ «لم تعد تخمر الطين إلا للذكرى» الجسد هنا هو العجينة؛ لأ.. العجينة هى الجسد؛ لأ.. الروح الزمن اللغة السرد السامر السيرة الهزيمة الصراع؛ لأ.. كل هذه الخامات، لا تصنيف ولا توصيف ولا تراتيب؛ إنها ضفائر وعناصر الحرية، أحلام الصانع والمصنوع؛ الابن والأب، ابن الواقع وابن الحلم؛ «أنا وهو الحكاية، والحكى غاية.. غاية القمر يغازل الضلمة، غاية الشمس فضاحة، غاية الريح وشوشة، ما بين نار الغواية وهس الميه ف الطين كانت الحكاية»!!
وتعيش مع أطياف يوسف نشوة المستحيل القيمة، والقيمة المستحيل، وفى غمرة النشوة تصدمك بديهية أن «الحياة تحتاج معجزة البقاء»!!
ثم تستدرك فجأة: لا شك أن لدى يوسف مشكلات وأزمات، لكن من يقطع بذلك؟
هو لن يمنحك فرصة الحديث عن الأزمات التى تحمل أسماء، فكل اسم موت، لذا يقول طيفه: «الاسم فراغ، أنا كان اسمى قد تاه فى رحم أمى/ أنا الكفيف الاسم، أنا أمى وأنا أبى وأنا لا اسم بين الأسماء/ من يعطينى منكم اسمًا، يومًا واحدًا/ أجتاح العالم، أخضعه تحت لوائى/ أمحو الأسماء جميعًا» فالحديث عن البقاء أكثر جدوى، لأن الحياة تحتاج معجزة البقاء، ومعجزة البقاء تعنى النجاة، وأول مقومات النجاة المقاومة، وتاج المقاومة الانتصار على الخوف، وذلك لا يتحقق دون تراكم خبرات؛ «أنا الوحيد الذى نجا من الطوفان/ أنا من رأى الصراع وعصف الموج يهلك البشر، ويسحبهم فى دوامات إلى القاع، أو يلطمهم بالصخور؛ الكثير من الناس مات من الخوف قبل أن تكتسح المياه سطح الأرض».
أما السلام والرضا عن النفس عند يوسف فاخورى، فرغم أنه ضرب من خيال، إلا أنه قد يتحقق بفعل بسيط يحرك حالة السكون، ففى الحركة بركة، كما نقول، وفى كل بركة متعة، وكل متعة ترددات لسؤال مفتوح، سؤال الصراع الأزلى؛ «صراع السماوات السبع بالأرض، هل نسأل أيهما انتصر على الآخر؟ لم ينتصر أحد، لأنها ظلت باقية وظللنا نسأل دون أن ننتهى».. وربما لهذا السبب يذوب السؤال عن مشكلات يوسف فاخورى كفرد تجاوز بوعى حاد أكثرية أزماته، ويتعايش مع العالم بمنظوره هو، برؤيته للحياة، بقناعاته، ودونما انتقاص أو امتعاض من قناعات الآخرين، إلا أن شاغل يوسف فاخورى لم يتبدد بعد، لأن طيفه ما زال يكابد، فلكلٍ يقينه، وما يؤمن به هو يتجاوز اليقين، إنها دراما الحياة التى تشكلها ترددات تساؤلات الحلم والواقع/ النصر والهزيمة؛ «كنت أرى اضطرابك المبهم فصرت بلا يقين، أصبحت أسأل نفسى هل الابن يقين أبيه؟ ربما الأب يقين الابن» ذلك الاضطراب يتجلى فى الحوار بين الداخلى والخارجى/ الأنا والآخر/ الأصل والصورة/ الأرضى والسمائى؛ «يسوع نحن نصلى لك وننشد، دمك علينا، هل نحمله فى الدنيا وفى الآخرة.. أنت المبدأ» ثم «لم أكن المبدأ، كنت الرمز/ رمز التحدى الذى فهمتموه استكانة».
إذن كيف السبيل إلى جَسْر الهوَّة ورأب الصدع؟!
«فى زمنى أجبت عن السؤال، واستجابت المعجزة قرونًا لكنها اليوم شاخت، أنتم كمن ورث ميراثًا ضخمًا وجاء الأحفاد ليبددوه».. إنه اغتراب لا نهائى؛ «تحلم أنى (أنت)، وأنا أصارع الفرار من رهبتك ورغبتك ومستحيلاتك».
يوسف فاخورى تتبع ذلك الاغتراب السارح فى وجدان الإنسان «بشكل عام» والحالة المصرية «بشكل خاص»؛ «شردت وانقسمت الدنيا فى عينى نصين.. طلعت فوق الطابية وقعدت، كان الناس طول واحد ومشيهم واحد وجريهم واحد.. بصيت ع السوق حسيته فى بطنى، نزلت له، ومن يومها والسوق دارى.. لملم عضمى.. سكنى وسكنته.. لكن فضل السوق فى دمى غُربة».
إنها تراجيديا الحياة، وقد ترجم يوسف فاخورى ذلك بشكل فنى ممتع فى «حكايات الغريب» و«فرد حمام» و«فتنة اللحظات الأخيرة»، وقد عبّرت كتاباته فى مجملها عن الشواغل الوجودية لإنسان هذا الزمان، وراوحت بين همومه الخاصة والعامة؛ بما يكتنفه من ألم وحسرة جراء ما يقترفه، وما يُقترف ضده من خطايا وأفعال.
لكن هل تنتهى تساؤلات إنسان يوسف فاخورى؟.. إنها تتواصل بقدر الحلم والأسطورة والنهر، تمتد بلا نهاية؛ «كنت على يقين أن فى قلب الطوفان نقطة ضوء، من يمسها ينجو/ لم أدرك الزمن. يغيب ويعاود؛ حتى لم يعد زمنًا. صار إيقاعًا خفيًا بلا صوت. إيقاع الصمت الذى فناؤه فى ذاته يتوالد، ويمتد بلا انتهاء أو ابتداء».
ربما حسم يوسف فاخورى موقفه تجاه شواغله الوجودية، لكنه ما زال يعيش مكابدات أبطاله ومعاناة كائناته، أما الحياة بدراماتيكيتها فهى اليقين الوحيد الذى يتجلى فى كتاباته، رغم ذلك لن تشعر معه بأنه يكتب، هو فقط يعيش؛ «يغيمُ أحيانًا، يتبدى أحيانًا، لكنه لا ينقضى»، وعندما تقرأه تنتابك الحياة، ولن تشعر معه سوى بوجودك وحدك، لكن بمجرد أن يغيب سوف تنتابك الوحشة.
يوسف.. «هل تعرفت عليك»؟!