أوجاع خالد أبوالعلا
الشِعر جسد مسكون، كامن فى النفس، موزّع فى الحواس، كل حاسة سؤال يمور فى الوجدان، وفى لحظة قلقة يطل برأسه نافضًا التراب عن الجثمان، وفى ديوانه «لا أحد يشترى جثة رجل وحيد» يسعى الشاعر خالد أبوالعلا إلى تحرير ذاته من إرث ثقيل يحتل جسده ويهيمن على مقدراته، يتساءل: «لماذا تنام جثتى فى منطقة آمنة فى الما بين/ ولماذا تتواثب روحى فى صلصال/ لم يتجاوز خلقة الحمأ المسنون؟».
يراجع سرديته كمن يشاهدها فى مرآة، يقف على ما مر به من «بداية ما كان» وصولًا إلى «نهاية ما سوف يكون»، وتتبلور مكاشفاته عن نفسه فى صورة مَن يوجز مراحل حياته فى إضاءات؛ نرى عبرها ما أصابه من أحوال: «فليس ثمة ما أقومُ به/ إلا أن أطفئ الصباحَ الطازج فى عين الريح/ وأجلس على عتبات نهار يعرفنى/ أعبئ روحى بألوان لها قتامة مقبولة/ وأرتب خطوات رحيلى/ بلون لا يلفت أنظار الموت إلى/ أو يُحدثَ جلبة طفولية/ تستدعى الطرد من رحمة الأشياء/ فلا خوف اليوم يعيد مكاشفتى بما يليق بى/ أو يتركنى أصرخ فى قصيدة رثاء/ بصوت خفيض لا يثير ضجيج وحدتى».
والشِعر مثلما هو جسد مسكون، هو أيضًا بحرٌ هائج؛ يجدف فيه الشعراء كلٌ بطوقه، ولخالد أبوالعلا باب مفتوح على المراثى، يمهد له بموضعة الذات فى عالم اليوم؛ فبينما يستحضر ماضيه الشخصى يتقاطع مع الذاكرة الجمعية، ومن خلال هذه العملية يُحدِّثُ عن جسدنا، عن ندوبه وهزائمه وما خلّفته من آثار أصابت أرواحنا بالجدب والتصحر؛ يقول: «لا أستطيع محاكاة السراب/ بصدر عار من العطش/ إذ لا أملك غير رمال قائظة/ وشفتين مبللتين بسنين الغياب/ وحبات من رحيلك المضمخ بالمرارات/ وشاهدة قبر لجندى مجهول/ كان يلمس السراب بيديه/ يقتطع منه ما يكفى/ لأن يوزع منه على رفقاء خندقه/ المحملين بيقين الهزيمة».
التأسى على الذات فى هذا الديوان ليس لإدانتها أو جلدها، بل لغربلة الذكريات وترتيب الذاكرة عبر وقفة استدراكية؛ يُلقى فيها نظرة متأملة على شريط حياته، تلك الوقفة موقوتة بمسافة زمنية قصيرة، لكن خالد أبوالعلا يتخذها مسرحًا للمراجعات، وبينما يتحسس ندوب جسده طوال فترة تغطى أكثر من نصف قرن، يبنى سردية موازية حافلة بتساؤلات وجودية تعكس موقفه تجاه حراك جسده وما أصاب نصه من تحولات؛ يتساءل: «كيف لك أن تضع خاتمة لنص بدأ متأخرًا عن موعده فى روحك؟ كيف تجرؤ على فعل ذلك دون أن تبدأ مبكرًا/ قبل خروج روحك من مغربها/ وقد غرغرت فيك القصيدة؟».
المفارقة واحدة من خصائص هذا الديوان، وفى قصيدة «يرشق نظرته فى دمى» يأتنس الشاعر بزمن الـ«أبيض وأسود» ليس لحنين إلى قيم «الزمن الجميل» بل كمفارقة لإبراز حال الذات الآن، وتعريتها؛ يقول: «أنا بالكاد أتنفس نفسى/ أمر منى إلى وجهى دفعة واحدة/ وأقف وسط الطريق/ دون أى اكتراث بالحافلات المارة فوق جثة الوقت/ ذلك الذى يرشق نظراته فى دمى/ بخبث يعدل مرور الدقائق/ من ثقب مصلوب خطأ/ فى سقف روحى».
وفى قصيدة «تزهر أصابعها كلما لامست شفتيه» يتتبع الشاعر انشطار ذاته بين «ما كان» و«ما سوف يكون»، وفيما يشبه تحويم طائر يطل على جسده المهاجر إلى المدينة المخادعة؛ يقول: «ليس بقلبى ماء/ حتى يذكرنى الرمل/ أو العصافير التى بللت ذاكرتى ذات صباح/ بزقزقات تشبه المارشات العسكرية/ تنزلق روحى فى جسدى مرة تلو مرة/ وأنا أسير التيه/ منذ خمسين احتراقًا/ يداهمنى العسس وقاطعو الطريق/ يفتشون الريح عن وجهتى/ أو ما يشير إلى قصيدة/ ربما تنمو حشائشها/ فى دائرة الظمأ/ أو على حواف بوح له جناحان».
الأمر لا يتعلق بالحنين إلى مكان أو فقدان قيم؛ فالقيم مستقرة فى الوجدان، إنما بمأزق وجودى مرتبط بالهوية، يتبلور فى صور تشير إلى فقدان اليقين، والشك فى هوية الجميع؛ الجسد والسردية، وصولًا إلى «الوهم الكامل للأشياء»؛ حيث: «لا يشبهنى شىء/ لا أحمل حتى رقمًا/ أو كان لتعريفى أى هوية/ فأنا ما كنت عليه طويلًا/ منذ ارتكب المجهول خطاياه المعلومة فى/ فأنا شىء ما/ مجهول بين الغرباء/ غريب وسط المعلومين/ ومعلوم عند اللا شىء/ وشىء عند المجهولين/ لا اسم يدل عليه/ ويعنى ذاته».