صراع "القوت والنبوت"
تمكن "الحسن الصباح" من نشر المذهب الإسماعيلي داخل الأوساط الشعبية وزاد عدد أتباعه والمنضمين إليه بقلعة "ألموت" بشكل أنذر بتهديد كبير للدولة السلجوقية. يقول "محمد كامل حسين"- في كتابه "طائفة الإسماعيلية"- "لما عاد الحسن الصباح من مصر جمع حوله مجموعة من الفلاحين الإيرانيين، واستجاب له كل من شعر بظلم السلاجقة الأتراك وسوء حكمهم، ولا سيما السلطان ملكشاه السلجوقي الذي كان ظالماً غشوماً إلى أبعد حد، فقد اضطهد الناس جميعاً، ولا سيما الشيعة الإسماعيلية، وقتل منهم عدداً كبيراً، مما جعل الناس في عهده تراودهم أحلام الشيعة الذهبية القديمة، من تمني وجود إمام عادل يملأ الدنيا عدلاً بعد أن ملئت جوراً، فجاءهم الحسن الصباح يبشرهم بقرب تحقيق هذا الحلم". ومن هؤلاء الفلاحين شكل "الحسن الصباح" فرق الاغتيالات الأولى التي استخدمها في تصفية خصومه ومناوئيه، حتى انتهى به الأمر إلى الاستيلاء على قلعة "ألموت".
أدرك "نظام الملك" أن تمدد جماعة الحشاشين داخل المجتمع السلجوقي مرده فكر وخطاب مقنع للأتباع، يستثمر مجموعة من المعطيات الواقعية على الأرض المعبرة عما يقع على الناس من مظالم. لذا قرر أن يواجه الفكر بالفكر، فلجأ إلى إنشاء المدارس النظامية. وهي مدارس تمددت في عهده لتغطي العديد من المدن السلجوقية، وكان هدفها الأساسي تعليم المذهب السني والدفاع عنه ضد الهجمات الشيعية، والوقوف في مواجهة الأفكار التي ينشرها "الحسن الصباح" في المجتمع عن طريق أتباعه. تقول "هيفاء عبد الله" صاحبة دراسة "الوزير السلجوقي نظام الملك": "ويبدو أن نظام الملك قد أحس بالخطر الذي تتعرض له الخلافة السنية وكيف أن أعداءها وبخاصة الشيعة الإسماعيلية قد استعملوا أسلوب المنطق في هجومهم عليها، وكيف أن أساليب الفقهاء في عصره لم تكن لترقى إلى مستوى الدفاع عنها بجدارة، ولعل ذلك ما دفعه إلى التركيز على إنشاء هذه المؤسسات العلمية العالية التي تعتمد على المنطق أسلوبا في الدفاع إزاء هجمات الخصوم ومكافحة آرائهم ودعاياتهم الهدامة".
وكما كان "الحسن الصباح" يطعم ويرعى كوادره، اتجه نظام الملك إلى إجراء الأرزاق و"الجرايات" على التلاميذ الذين ينخرطون في مدارسه كأداة لتأليف القلوب، وكوسيلة للتعامل مع الفقر الذي يضرب بأطنابه في الواقع السلجوقي. وحرص الوزير على أن يشرف على هذه المدارس بنفسه، ويراجع ما يدرس للتلاميذ فيها، حتى يتأكد من قدرة المحتوى التعليمي على تحقيق أهدافه في التنوير بالمذهب السني وكشف ضلالات المذاهب الأخرى، وخصوصاً المذهب الإسماعيلي الذي يروج له "الحسن الصباح" وأتباعه من الحشاشين. حاول "نظام الملك" أيضاً أن يعلن على الملأ أنه ليس ضد المذاهب الأخرى، بما في ذلك المذاهب الشيعية، لكنه ضد الضلالات والأباطيل.
خطة أخرى اعتمد عليها "نظام الملك" في مقاومة الفكر الجماعاتي الذي حاول "الحسن الصباح" نشره، عن طريق تعميق دعائم الدولة من خلال إصدار وثيقة أقرب إلى الدستور، هي وثيقة "سياست نامة". ألّف "نظام الملك" هذا الكتاب بتكليف من السلطان "ملكشاه" ليكون أداته في إدارة الحكم وتسيير أمور الدولة بالعدل والحق والحسم والعزم، بالإضافة إلى الكشف عن أحقاد مخالفي الدولة من وزراء وولاة وعمال وطامعين وأعداء متربصين، وفضح ذوي المذاهب الخبيثة الفاسدة، كما يشير الدكتور "يوسف بكار" مترجم كتاب "سياست نامة" عن اللغة الفارسية.
وقد خصص نظام الملك عدة فصول من الكتاب للحديث عن الفرق المارقة وخروجها عن الإسلام، وعلى رأسها فرقة "الحشاشين" وحذر السلطان بشكل مباشر من "الحسن الصباح"، ومن الخطر الكبير الذي يمكن أن يحيق بالدولة السلجوقية جراء انتشار دعوته وتمددها من مكان إلى مكان، وزيادة عدد أتباعه وأنصاره في كل الاتجاهات، وتحركهم بشكل فاعل في تصفية خصومه السياسيين عبر فرق الموت، واستغلاله جهل العوام، الذين تعوزهم القدرة المعرفية والتكوين العقلي الذي يمكنهم من التفكير في مجموعة الشعارات والعموميات التي يحدثهم بها "الحسن الصباح" والتي تزين لهم الانضمام إلى مجموعات الموت المسئولة عن عمليات الاغتيال التي يأمر بها أمير قلعة "ألموت".
اجتهد نظام الملك قدر استطاعته في مواجهة ما اعتبره فكراً ضالاً ينشره "الحسن الصباح" من خلال نشر التعليم عبر المدارس النظامية أو النظاميات، وكان يعلم أكثر من غيره طموحات صديق طفولته "الصباح" التي لا يحدها سقف، لذلك أوصى السلطان ملكشاه بالمواجهة الصارمة للحشاشين وكبيرهم، نظراً لما يشكلونه من خطر على الدولة ككل. وفي حين كان "نظام الملك" يقاوم الفكر بالفكر شعبياً، ويوصي السلطان بالمواجهة الحاسمة الصارمة لـ"الحسن الصباح"، كان الأخير يجلس في قلعة "ألموت" يخطط لخطوة صاعقة لمن وصفه بالقروي "نظام الملك" الذي يشغل موقع الوزير.
من داخل قلعة "ألموت" أدار الحسن الصباح عملياته، منتهجاً أسلوبا غير تقليدي في مواجهة أعدائه، أسلوبا لم يعرفه "نظام الملك"، الذي لا يفهم إلا في الجيوش النظامية، إنه أسلوب الاغتيالات الذي يعتمد على فرق تنفذ عمليات محددة بأعلى درجات الدقة، فيما يشبه "حرب العصابات"، ونجح من خلاله في تدويخ أعدائه، وبث في خصومه حالة من الرعب العنيف، بعد أن سيطر عليهم إحساس بأنهم معرضون للاغتيال بخناجر "الحشاشين" في أي لحظة، وأنها قادرة على الوصول إليهم في أي مكان. ودرس "حرب العصابات" كان من أهم وأخطر الدروس التي تعلمتها "جماعات العنف السياسي" من تنظيم "الحشاشين".