تغريبة «السلايمة» فى «صحراء مضادة»
كان الطريق من سيناء إلى القاهرة مرصوفًا بالعوائق، لكن «عبدالله» يعرف وجهته تمامًا؛ لديه طاقة خاصة فى التَفلُّت من حواجز وكمائن فرضتها المخاطر فى أعقاب ثورة يناير، وها هو يصل العاصمة فى عناء، يطأ دروبها كخبير بالتعاريج، يمشى فى شوارعها خفيفًا، لكن إيقاع قدميه يظهره كمن يسير فى دروب متعرجة فوق تلال من رمال. بينما أنتظره آمنًا فى منطقة وسط البلد؛ أرقبه من بعيد، أنتبه إلى حركته؛ يهبط ويطفو مثل راكب جمل يتهادى فى صحراء، يتَلفَّت يمينًا ويسارًا كأن عينيه تبحثان عن طمأنينة، يقف أمامى موقف المندهش من التزامى بموعدنا؛ أراه ينظر إلى فضاء أبعد من مكانى، أسأله عن تلك النظرة، يقول باسطًا ذراعيه: «يا أخى فى هذه المدينة أتوقع أى شىء، حتى لو جاء منك». ويتابع: «تحبطنى قيود العشيرة هناك، وأيضًا عمايل الناس هنا». وإذ يجلس «عبدالله» يستقر رأسه بين كَتِفيّه، وحيث أمد يدى يحتضنها فى كفَّيه، فألمس فى سلامه حرْصَ من يُريد ردَّ الأطراف الشاردة إلى الجسد المنقوص.
يبدو «عبدالله» غامضًا بشكل ما؛ قد تعتقد أنه راعى إبل فى فضاء الفيافى، أو حارس خيام فى ليل الصحراء، وربما صاحب مزرعة؛ يحيا فى مناطق عشبية مفتوحة على النهار، ثم يأتى وجيهًا إلى القاهرة بهدف جنى ثمار ما اتفق على بيعه من محاصيل الخوخ والزيتون لتجار العاصمة، وفى كل الأحوال ينتظر الاتهام الجاهز: «بدوى عميل» أو «ثرى أنفاق».
لم يحدث أن سألت عبدالله السلايمة عن وظيفته، وقد عرفته قاصًا وروائيا، وواحدًا من أدباء مصر المخلصين، ولمست ذلك فى كتاباته المتنوعة التى تتناول حال أهل سيناء وقضاياهم؛ يؤمن بالقراءة ويراها جزءًا أصيلًا فى تربية الوعى، كما يرى الكتابة سبيلًا لتغيير المجتمعات، لكن ذلك لا يعنى أنه يعيش من عوائد الكتابة، بل من كونه «مواطنًا يمتهن حرفة ما» ربما مجبرٌ على ممارستها؛ فالضرورة تقتضى أحيانًا «ممارسة ما لا نطيق من أجل أن نحظى بما نحب»، أو كما يقول على لسان بطل روايته «صحراء مضادة»: «كان يؤلمنى أن أعيش واقعًا يفرض علىّ أن أتعامل بوجهين؛ وجه جاد أكرهه، تفرضه علىّ وظيفتى والمحيط الذى أتعامل مع أناسه، وفيه أشعر بأننى أخون نفسى، ووجه آخر عبثى أعشقه ويشعرنى بأننى أعيش نفسى. فالكتابة هى التى تشعرنى بمدى بشاعة الوجه الآخر، وتنقذنى من وطأة إحساسى الدائم بالانتهاك».
وفى رواية «صحراء مضادة» التى صدرت عن دار الأدهم ٢٠١٢، يتبنى «السلايمة» صوت الراوى؛ «الدكتور عارف» الذى تمنحه القصص والروايات التى يقرؤها فرصة للهروب بخياله إلى عالم لا يشبه الذى يعيشه؛ عالم يشعر فيه بالاستقلال، فالبداوة «عزلة ثقافية، تحيط بها أسوار من التقاليد والعادات والأصول المتوارثة»، ويعانى حالة حصار فردى، يتمدد خلال الرواية، كاشفًا عن صراع ثقافتين «البداوة والتحضر» فى مجتمع سيناء؛ حيث سيطرة السلطة الأبوية، وسلطة العَشِيرة على حساب حقوق الفرد، ومن يخالف ذلك مصيره التشميس؛ أى التخلى عن حمايته والتبرؤ منه، بل ومطاردته حتى لو اختبأ فى زقاق داخل حوارى العاصمة الكبيرة. وتطرح الرواية سؤالًا بحجم حيرة بطلى الرواية «عارف وضحى»: لماذا ترفض العَشِيرة الانصهار فى المجتمع الكبير؟ بما يمثل مأزق البدوى الجديد؛ الذى يؤمن بالاندماج ويعرف أن الديناميكية هى سبيل التحديث والتحَضُّر.
يستهل «عارف»؛ الطبيب البدوى الذى يعمل فى أحد مستشفيات القاهرة، حكايته من على مقهى، حيث ينتظر موعده مع طبيب الأسنان، لكن فتاة تجذب انتباهه؛ كانت منكسرة يبدو عليها الإعياء، ونعرف لاحقًا أنها هاربة من عشيرتها فى سيناء بسبب وقوفهم ضد طموحها فى استكمال تعليمها، حيث «لا ضرورة لتعليم البنت، فمكانها الطبيعى البيت، ومهمتها إنجاب الأطفال فقط»، كما أنهم ضد رغبتها فى الزواج من حبيبها غريب «ابن المنصورة» الذى يعمل إخصائى نفسى بالمدرسة الثانوية، فـ«البدو لا يفضلون مصاهرة الغرباء؛ يُحرِّمون ذلك على بناتهم، (ياكلها التمساح ولا نديها للفلاح)، بينما لرجالهم مطلق الحرية فى الزواج من أى امرأة».
تستريح «ضحى» إلى تعاطف الدكتور عارف معها، وتقضى أيامها فى القاهرة بين الأحلام والكوابيس، تعيش وجودًا بائسًا؛ خصوصًا بعد صدمتها فى حبيبها «غريب» الذى تنكر لها بعد عودته إلى القاهرة، ومع تتابع الأحداث تتنازعها أفكار شتى للخلاص مما هى فيه، لكن مساحة ثقتها فى الدكتور عارف تسمح بأحاديث حرة بينهما؛ تكشف عن جانب من طريقة تفكير فئات أخرى داخل مجتمع البادية؛ تتجاوز التقاليد البالية والعادات السيئة التى تحض على التمييز والاستعلاء، وهو ما يتجسد فى حوار «عارف وضحى»؛ يواسيها: «ليس علينا أن نشقى بحياتنا، فمن منا يصنع قدره أو يحدد مصيره»، و«من منا بلا أخطاء»؟.. وترد: «الأخطاء ليست واحدة، فهناك من الأخطاء ما يمكن تسميتها بالصغيرة، وتلك يمكن تجاوزها بسهولة، لكن ثمة أخطاء جسيمة، قد تكلفنا دفع حياتنا ثمنًا لها». فيحثها على تجاوز محنتها: «الأقوياء هم القادرون على التحرر، وإحداث القطيعة النهائية مع الماضى؛ فالالتفات إلى الخلف غالبًا ما يكون مَهْلَكة».
علاقة «عارف وضحى» جديرة بالملاحظة، فقد تشكّلت عبر ثلاث مراحل؛ «الصدفة والقرار والضرورة»، وبما يؤكد روح فكرة «الصحراء المضادة»؛ فما بين الاستهلال والختام يتعرض «السلايمة» لما أصاب الشخصية البدوية فى سيناء من تحولات عانى منها المهجّرون من أبنائها بعد عودتهم إلى ديارهم عقب تحريرها من الاحتلال الإسرائيلى فى عام ١٩٨٢م، حيث وجدوا تبدلًا فى أحوال ذويهم؛ يقول على لسان والد «ضحى»: «لقد تغيروا كثيرًا عما كانوا عليه، تخلوا عن رومانسيتهم والكثير من قيمهم الرائعة، وانشغلوا بالسعى الحثيث خلف صيت خادع، زاد من مساحات الفرقة بينهم، ولم يجنوا من وراء لهاثهم خلف الصيت والمال غير إحساسهم بأنهم أضحوا عبيدًا لهما»، ويمتد الأمر إلى ما تلا ذلك من سنوات.
وإذا كانت «العَشِيرة» تنبذ كل من ينتقد أعرافها البالية فى موطنها، فإن الكارثة الأكثر قسوة أنها تطارد من يفعل ذلك خارج حدودها المكانية؛ «ضحى» هربت إلى القاهرة لأنهم يعتبرون الحب خطيئة، هربت أملًا فى الحرية التى تفتقدها، لكنهم ترصَّدوا لها بهدف «غسل العار»، وأرسلوا من يطلق الرصاص عليها، لكنها نجت؛ «كانت طاقة تمسكها بالحياة كبيرة، ولديها إصرار على أن تعيش وتدافع عن حقوقها، تقاوم بالطريقة التى تؤمن بها، وهو ما حدث عندما استجوبتها الشرطة، فلم تتردد فى اتهام العَشِيرة بمحاولة قتلها».
يستقرأ «السلايمة» فى «صحراء مضادة» التغريبة المضاعفة لبطله؛ يقول: «قدرنا أننا ننتمى لمجتمعات لا تؤمن بحقنا فى أن تكون لنا حياتنا الخاصة»، فكما يحاصر البدوى بالعادات والتقاليد والأعراف فى الداخل السيناوى يعانى أيضًا من حصار آخر؛ تبلور منذ عقود، وبات أثره أشد وطأة فى أعقاب ثورة يناير، وتمدد لاحقًا إلى ما قبل بدء «العملية الشاملة» لاستئصال جذور الإرهاب فى سيناء فى العام ٢٠١٧؛ حيث الترويج لتصورات ذهنية تشيع أن أبناء سيناء إرهابيون وعملاء، وهى شائعات أطلقتها ووظفتها أطراف محلية وإقليمية على نطاق واسع فى محاولة لاختراق الشخصية المصرية، وضرب الانتماء وبث الفتنة بين أبناء الوطن الواحد.
وتلك الإشارة التى وردت عابرة فى «صحراء مضادة» لم تكن سوى مفتاح للنظر فى جانب آخر من تغريبة السيناوى الجديد؛ وقد وقف عليها الكاتب الروائى عبدالله السلايمة، فى رواية لاحقة بعنوان «خطايا مقصودة» صدرت فى القاهرة سنة ٢٠٢٠.