مسرّة أشرف عبدالشافى ونغمات وجدانه
ليست للكتابة وصفة جاهزة فهى عملية بسيطة ومركبة فى آنٍ واحد، تحتاج إلى معلومات ومعارف، وأساليب تنظم محتواها فى شكل ما، وإذ تصل القارئ تأخذه بيسر إلى عالمها، وهو فى كتاب «يا جميل ياللى هنا» عالم ثرى مغمور بالمحبة والبهجة والشجن؛ يرسم فيه الكاتب والروائى أشرف عبدالشافى مسار أكثر من ثلاثين شخصية على صوت وألحان الموسيقار محمد فوزى، صانعًا سيمفونية فريدة لشخصيات بارزة يعرف عنها العامة كل شىء، وأخرى تعتقد أنها تخصه «وحده»، وفى صحبته تعرف عنها كل شىء، لكن فى كلتا الحالتين تجد ملمحًا جديدًا يشُدك إليها هنا، وكأنك تعيد اكتشافها، أو تعيد اكتشاف إحساسك بها.
إنها معادلة صعبة قدر تنوع وتموّضع تلك الشخصيات فى الحياة الثقافية والفنية فى مصر والعالم العربى، فليس الغرض هنا الإشادة بأحد ومحاكمة آخر، أو سرد تاريخ حياتهم، أو رصد مواقفهم تجاه قضايا سائلة «والسلام»، بل إضاءة الذاكرة فى عصر تتآكل فيه الذواكر. والممتع هو شعورك كقارئ بأنها ليست ذاكرة الكاتب وحده، إنما تلك الذاكرة المشتركة التى نطلق عليها بيت الوجدان.
يغنى فوزى: «يا جميل ياللى هنا ما بقينا لوحدنا.. اسقينى بنظرتك واروينى برقتك» فنردد مع أشرف: «وحياة محبتك ما انا منقول من هنا»، ونقول معًا: لست وحدك أيها العصفور المغرد، فجميعنا ارتوى بمحبتك؛ نعرف أنك وفدت إلى العاصمة حاملًا معك بركات سيدى إبراهيم الدسوقى، ونفحة رضا من السيد البدوى، لتصنع للأجيال أسطورة «ماما زمانها جاية»، دون أن ندرك أنك عشت طفولتك فى فقر وزحام، وكنت الابن رقم ٢١ فى قائمة أسرة تتكون من ٢٧ أخًا وأختًا.
وأنت معنا ببصماتك البارزة فى عالم الموسيقى والغناء والسينما نعرف أن حلمك لم يكتمل، بعد أن عصف التأميم بمشروعك الكبير «مصر فون» وأحال جسدك للتقاعد، ورغم مرور كل هذه السنوات على موت الجسد بالمرض اللعين فى أكتوبر ١٩٦٦، يظل صوتك مشعًا فى الوجدان؛ لأن الألحان الجميلة لا تموت بالتقادم، والصوت الحُر يعيش حتى لو تآمر عليه الآليون من هواة الخبط والرزع، وصانعو القبح، ولأن عشاق الجمال فى كل زمان ومكان يمتلكون قدرة استعادتك مع كل لحظة حزن وفرح وتأمل.
ولهذا أنت ذلك اللحن الذى يستطعم به أشرف عبدالشافى أحبابه، يستخرج به اللين والعذوبة والذوبان من سطوة القسوة، ويحرك الصورة الذهنية التى سادت عن فنانين وكتّاب بارزين، ويجلو بفكاهة جوانح بعضهم؛ فهذا محمد مستجاب، صاحب الطلعة «الهَجَمَة» واللهجة الخشنة والجلباب الصعيدى و«العين الحسناء»، عاشق ولهان، ومع مَن؟.. مع الفاتنة أودرى هيبورن، «النجمة التى قلَّبتْ عميد عائلة مستجاب على الجنبين»، وكشفت النقاب عن صعيدى رومانسى؛ رق وشف ولان لها قلبه، وصار كما يقول أشرف «زى البسكوتة فى كوب الشاى».. و«تخيل إنت بقى مستجاب وهو فى أحضان فاتنة هوليوود».
ورغم أن جمال أودرى هيبورن لا يضاهيه جمال، إلا أن ما حدث لأشرف يفوق ما حدث لمستجاب؛ فقد اختار قلبه فتاة قصيرة ومحندقة، هى الراقصة زينات علوى التى رقصت على مقطوعة «تمر حنة» التى صنعها فوزى بمزاج، وعاش معها فى الأفلام، ورغم أن المعلومات المتوافرة عنها مشوشة وشحيحة، إلا أنه يستعيد بناء شخصيتها من مواقفها؛ فهى صاحبة لقب «قلب الأسد»، «لا تخشى أحدًا، ولا تفعل إلا ما تحب وتهوى، رأت مبكرًا أن الرقص مهنة، وسعت لتأسيس نقابة تحمى الراقصات وتصون آدميتهن، لكنهم أجهضوا فكرتها كما أجهضوا وجودها نفسه، بعد أن رقصت فى حفل أنشاص ليلة النكسة، فبات ظهورها شحيحًا، حتى موتها فى يناير ١٩٨٨م».
ويغنى فوزى: «ياما فاتلى ويّا الفجر آمال.. قبل النهار تنسى وتروح»، فتشع شخصية أمينة رزق داخل عقل وقلب أشرف، إذ يجسد ذلك بوخزة خفيفة، يربط فيها أدوارها الفنية بحياتها الاجتماعية؛ الفتاة التى لم تتزوج والسيدة التى لم تنجب والأم التى تشاركنا إلى تلك اللحظة أفراحنا وهمومنا وتثير مشاعرنا حتى لو أهملتها الذواكر الراهنة، ربما لم تسنح لها فرصة الارتباط، ربما لم تشأ أن تتورط فى مؤسسة الزواج وتوابعها، أحبت يوسف وهبى، لكنها آمنت بالفن، وباتت راهبة تعيش كل هذه الحيوات فى محرابه.
ومن بوابة فوزى الشجية ينقلنا الكاتب إلى عالم الذين تأملوا فتألموا؛ و«بلدى أحببتك يا بلدى.. حبًا فى الله وللأبد»، وما أقسى الشجن حين يستدعى من تشع مواقفهم وتحيا أفكارهم مع سيرورة الزمان؛ لويس عوض الذى صُلب حيًا على يد قائمة طويلة من كتّاب بارزين، من بينهم فاروق عبدالقادر ورشاد رشدى ورجاء النقاش ويوسف القعيد وغيرهم، وليس أقل من أن تراجع ما وقع عليه من تشويه وانتقام بسبب التعبير عن أفكاره، ومنها «تفعيل الهوية المصرية».
أما صلاح عبدالصبور، الشاعر العظيم صاحب القلب الشفيف، فقد سقط جسده النحيل بفعل طغمة من حروف، سقط المثقف النبيل الذى بث رسالات الأمل والتفاؤل فى روح المصريين طوال سنوات ما بعد ١٩٦٧، طعنته كلمات أصدقائه، ولم تمنحه الطعنة فرصة ليهتف «اللهم اكفنى شر أصدقائى وأما أعدائى فأنا كفيل بهم»، أو يكتب رسالة أخيرة تشبه الشكاوى التى يودعها الشعبيون أمام أضرحة مقامات الأولياء والصالحين، وهى الرسالات التى شُغل بها رسول آخر هو رائد علم الاجتماع سيد عويس؛ إذ تتبع مساراتها فى دراساته الفريدة، ومنها «رسائل إلى الإمام الشافعى»، و«هتاف الصامتين».
لا يقتصر كتاب «يا جميل ياللى هنا»، الصادر عن دار ريشة، على تلك النماذج ممن أشرت إليهم سريعًا، بل فيه كثيرون من فنانى مصر ومفكريها، وفيه نلمس المحبة تشع من وجدان كاتبها؛ ففى طريقه لتأريخ وجدانه يسحبك الكاتب أشرف عبدالشافى بكل يسر وبساطة إلى وجدانك، وحيث تقرأ تنعشك موسيقى محمد فوزى، لتكتشف فى نهاية المطاف أن الأمر يتعلق أكثر باكتشاف موسيقى الآخر الذى هو أنت وهو كل هؤلاء فى وجدانك.