نجيب محفوظ.. سيرة شعبية
سنحت للكاتب الصحفى محمود مطر فرصة عظيمة؛ فما أرفع وأعظم من أن يدعوك مَن هو فى قيمة نجيب محفوظ لحضور ندوته.. لكن «مطر» تراخى فى تلبية الدعوة، وفى الوقت الذى استدرك فيه ذلك كان الوقت قد فات،
، وغادر النجيب دنيانا. ندم «مطر» ندمًا شديدًا؛ ويقولون فى مثل هذه الحالات «الندم لا يفيد»، لكنه جعله مفيدًا؛ بحث عن أثر الرجل فى ندمائه ومسامريه وتلاميذه وأصدقائه،
وانتقى من بينهم أكثر من عشرين شخصية بارزة، من أدباء ومثقفين ونقاد، جالسوا محفوظ ولهم حكايات خاصة معه. وقد سعى «مطر» إليهم تباعًا وحاورهم بجدية فى تفاصيل شائكة وملتبسة
وجمع الحوارات فى كتابه «نجيب محفوظ.. حكايات الراوى الأعظم» الصادر عن دار بتانة بالقاهرة، وفيه تتجلى أرواح أديب نوبل لتكشف عن تفاصيل خاصة فى سيرة الرجل الذى تظل مسيرته- رغم مرور أكثر من ١٦ سنة على رحيله- بمثابة «سيرة شعبية».
محمود الشنوانى: محفوظ قال لى «إنت وش السعد عليا».. ورافقت جثمانه إلى القبر
الحوارات فى «حكايات الراوى الأعظم» كانت عن نجيب محفوظ وعنهم أيضًا، كيف رآهم وكيف يرونه، ما الذكريات التى يختزنونها عنه،
اللفتات والهمسات والأمارات ولحظات الصمت. عن الضحك والقفشات والحزن. عن الشرب والأكل والتدخين. عن الطعن والبكاء، وقبل كل ذلك عن أول لقاء مباشر لكل شخص معه؛ وفى ذلك الأمر أدهش محمود مطر
ما ذكره الدكتور محمود الشنوانى عن لقائه بمحفوظ؛ قال له: فى مساء يوم جمعة من أيام شهر فبراير من عام ١٩٧٦ سنحت لى نفس فرصتك؛ قابلته صدفة مثلك، وتحدث لى بمثل ما تحدث لك به، وعرض علىّ نفس العرض، لكننى استثمرت الصدفة؛ وحين فوجئت به يقف أمام مقهى ريش لم أتردد ولو ثانية واحدة فى أن أتقدم إليه وأمد له يدى قائلًا بفرحة طفولية هائلة:
إزيك يا أستاذنا أنا محمود كمال الشنوانى، طالب بكلية الطب ومن كبار المعجبين برواياتك، وبمنتهى الأبوة والإنسانية والود واللطف والتواضع قال لى: شكرًا يا دكتور.. تحب تيجى تقعد معانا يوم الجمعة من كل أسبوع الساعة خمسة ونصف هنا فى مقهى ريش؟
ومنذ الجمعة التالية أصبحت «لازق» لأستاذنا نجيب محفوظ ولمدة ثلاثين عامًا كاملة؛ صرت واحدًا من رواد قعدته، وأصبحت فيما بعد من أصفيائه، بل كنت وزوجتى آخر من جلسا معه فى مكتبه بالأهرام قبل أن يأتيه خبر الجائزة السعيد، وعندما قابلنى بعدها، قال لى: «إنت يا شنوانى وش السعد عليا»، وحينما صعدت روحه إلى بارئها كنت الوحيد، بالإضافة إلى أسرته الصغيرة، الذى دخل القبر مع جثمانه وكنت آخر مَن وارى جثمانه.
عبدالمجيد: اتهمونى بالعمالة لأمريكا.. فدعانى لزيارته واستقبلنى على باب شقته
الروائى إبراهيم عبدالمجيد كان أول من فاز بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عن رواية «البلدة الأخرى»، يستحضر أول لقاء مباشر له مع نجيب محفوظ؛ يقول: ذهبت إليه فى كازينو قصر النيل حين صدرت روايتى «فى الصيف السابع والستين» عام ١٩٧٩. أعطيته نسخة منها. بعد أسبوع ذهبت مرة ثانية، فابتسم وقال لى «لقد قرأت عدة صفحات.. استمِر».. كان هذا يكفينى جدًا. ثم التقيت به للمرة الثانية عند حصولى على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية فى نسختها الأولى عام ١٩٩٦، وقامت الدنيا ضدى للأسف من بعض كُتّاب الستينيات وبالذات ممن يجلسون مع الأستاذ دائمًا ويتحدثون عن ذلك بفخر؛ اتهمونى بالعمالة لأمريكا، وكنت أعرف أن المشكلة أنى حصلت على جائزة قبلهم تحمل اسم مَن يتحلقون حوله، فالعادة جرت أنهم يحصلون على كل شىء ونحن بعدهم.
يتابع «عبدالمجيد»: طلب محفوظ أن يخبرونى فى الجامعة الأمريكية بأنه يريدنى أن أزوره فى بيته، وحين وصلت كانت هناك حراسة عليه بعد أن أصابه الإرهاب بعد فوزه بجائزة نوبل. دخل الحارس يخبره بوصولى.. انتظرت على باب العمارة من الخارج. عاد الحارس يطلب منى الدخول. وهنا حدث ما لم أتوقعه؛ رأيت باب شقته مفتوحًا وهو يخرج منه ليقابلنى وهو فى الطريق إلى الباب مرتديًا الروب فوق البيجامة ويقول لى وهو مبتسم ابتسامته الرائعة «أهلًا يا أستاذنا».. هنا دمعت عيناى.
سلماوى: كتابى المقبل سوف يكشف معلومات جديدة لا يعرفها أحد عنه
الكاتب محمد سلماوى يمتلك كنزًا ثمينًا ليس بالنسبة لشخصه فقط، ولكن لمصر وللأمة العربية وللإنسانية كلها.. حيث يحتفظ بأكثر من ٥٠٠ ساعة من الحوارات المسجلة على أشرطة كاسيت أجراها مع أديب نوبل بعد حادث الطعنة الغادر، وقد سأله «مطر» فى ذلك ومتى يفرج عما لم ينشر منها، فأجابه بقوله: «أنا مش حابس شىء علشان أفرج عنه.. الأشرطة موجودة وفيها الكثير الذى لم ينشر.. وأفكر فى أفضل وسيلة يمكن بها حفظ هذه الأشرطة التى تضم صوت نجيب محفوظ للأجيال القادمة». وخص «مطر» بمفاجأة؛ قال: أجهز حاليًا لكتاب يحتوى على حكايات خاصة حكاها لى نجيب محفوظ.. منها ما سأنشره كما حكاه هو، ومنها ما سأشير إلى أطرافه وأرمز إلى شخصياته بحروف فقط حسب نوع الحكاية أو القصة.. وهذا الكتاب سيضيف بعدًا جديدًا وسيكشف عن معلومات جديدة لا يعرفها أحد عن نجيب محفوظ.
هدى: بعد رحيله دخلت عالم المثقفين أو عالم الفتوات
هدى نجيب محفوظ تحدثت بأسى من أن كثيرين ربطوا بين الثلاثية وحياة نجيب محفوظ الخاصة وأسرته فى طفولته وشبابه، وتقول: صوروا والدتى كأنها شخصية أمينة، بينما كانت والدتى تتحمل العبء الأكبر فى تنظيم وقته وعمله وتفرغه للكتابة، وكانت صبورة جدًا تتحمل عبء البيت بالكامل، ووفرت له الجو والمناخ ليركز فى إبداعه تمامًا، ومثلًا لمعرفتها بحبه الشديد لصوت أم كلثوم وفرت له كل أسطواناتها، فهى كانت تتفهم تمامًا أنها زوجة رجل غير عادى. أبى لم يكن سى السيد.. وأبوه أيضًا لم يكن سى السيد، لأن البعض أيضًا ذكر أن والده هو الذى كان يشبه السيد أحمد عبدالجواد فى الثلاثية الشهيرة.. فهذه معلومة كاذبة وغير صحيحة على الإطلاق.
وتضيف: «الغريب أن أغلب من يتكلمون عن نجيب محفوظ يتكلمون عن هاتين المحطتين الأخيرتين فى حياته وما بعدهما دون أن يدركوا أنه مع حادث الطعنة فى أكتوبر عام ١٩٩٤ كان والدى فى الثالثة والثمانين من عمره، وأنه فى تلك السن الطاعنة كان قد بدأ يفقد السمع والبصر بشكل كبير جدًا، فكيف يقيسون حياة نجيب محفوظ كاملة على تلك السنوات الأخيرة فى عمره».
وتقول هدى: مشكلتى بعد رحيله أننى دخلت عالم المثقفين.. ممكن تقول دخلت عالم الفتوات.. وهذا الأمر يؤلمنى كثيرًا ولا أستطيع أن أعمم.. كانت المسألة أشبه بحرب من ناس كتيرة.. حاجة صعبة فى الحقيقة.. لقد صادفتنا أشياء صعبة وأطلقوا شائعات ضدنا.. بصراحة دخول عالم المثقفين كان تجربة قاسية بالنسبة لنا.. كانت الأمور تدخل فى إطار المصالح الشخصية، حاولوا إطلاق شائعات ضدنا هدفها أن ينفروا الناس منا.. والحقيقة أننى اقتنعت بما قاله البعض لى من أن ابتعادنا عن الإعلام كان جزءًا من المشكلة، وفى النهاية هذه الحرب كان سببها مصالح شخصية، ولا أستطيع أن أوضح أكثر من هذا.
وعن أصدقاء نجيب مجفوظ قالت: أصدقاء أبى القدامى أغلبهم رحلوا فى حياته، وكان من أقرب أصدقائه الأديب الكبير ثروت أباظة، فقد كان ضمن الحرافيش وتركهم، ولكن استمرت علاقته بوالدى قوية جدًا، وكان هو الوحيد الذى كان يزورنا فى البيت فى حياة أبى.. وكان توفيق الحكيم من أقرب أصدقاء والدى؛ كان أبى يعتبره أستاذه وصديقه.
هل كانت ندوة محفوظ محظورة على الجماهير؟
يقولون إن نجيب محفوظ ذات مرة وحيدة أبدى امتعاضه من شخص ما وجده مزعجًا إلى حد كبير، رغم ذلك لم يطرد أحدًا من ندوته، أو حظر على أحد ما حضورها؟.. إلا أن المهندس محمد الكفراوى كشف عن ضجر أديب نوبل من البعض، يقول: أذكر أن شخصًا ماركسيًا كان يحضر ندوة قصر النيل، وكان دائم الكلام الكثير الذى لا يقدم ولا يؤخر وليست منه فائدة على الإطلاق، جاء مرة إلى الندوة متأخرًا بعض الشىء وجلس قريبًا من الأستاذ ووجه إليه حديثًا لا جدوى منه كالعادة، ولما أحس صاحبنا أن الأستاذ نجيب بدأ يشعر بالضيق والضجر سكت وغيّر الكلام إلى منحى آخر، ثم أضاف: أريد أن ألقى على حضرتك نكتة يا نجيب بيه، فما كان من الأستاذ إلا أن رد ببديهة سريعة وحاضرة؛ فقال له: نكتة إزاى تانى، أمال كل اللى إنت كنت بتقوله ده إيه؟ وانفجرنا جميعًا فى الضحك.
رغم ذلك فإن جميع مَن تحدثوا فى كتاب «حكايات الراوى الأعظم» أفادوا بأن ندوة الأستاذ كانت متاحة للجميع؛ كل مَن يريد من المواطنين؛ لكل من يعرف القراءة؛ كما أن الكتابة عن نجيب محفوظ ليست مقصورة على أحد؛ هى متاحة لكل من يعرف الكتابة وليست مقصورة على النخبة فقط؛ فمحفوظ فى متناول كل قارئ لأدبه العظيم، وقد باتت سيرته سيرة شعبية.
«نجيب محفوظ.. حكايات الراوى الأعظم»