«الحجاج».. و«سعيد»
لا خلاف على ما امتازت به شخصية الحجاج بن يوسف الثقفى من صرامة وحسم بلغا فى أحوال حد القسوة، بل والدموية، لكن المتتبع لواحدة من أشهر الحوادث التى يُحتج بها على ظلم «الحجاج» ودمويته، يجد أن الرجل كان مستبدًا راقيًا، لا يأخذ بالشبهات، بل يقيم الحجة على خصمه ولا يعاجله بالعقاب، ويمنحه الفرصة كاملة للرجوع أو التراجع عما يضعه فى مرمى العقاب. لم يكن «الحجاج» يحرك سيفه ضد صاحب رأى، بل كان يتركه يثرثر بما يريد بحرية كاملة، لكن فى اللحظة التى يتحول فيها المتكلم إلى حمل السلاح ضد الدولة يتدخل بمنتهى الحزم والعزم لإيقافه عند حده. واقعة «الحجاج» مع الفقيه سعيد بن جبير تشهد إلى حد معين على ذلك.
ظهر سعيد بن جبير على مسرح الأحداث حين شارك فى التمرد الذى قاده عبدالرحمن بن الأشعث ضد الدولة الأموية، وهو التمرد الذى مثل واحدًا من أكبر التحديات التى واجهتها بصورة عامة، وواجهت «الحجاج» بشكل خاص. وجهًا لوجه وقف قائدان لا يقل أى منهما عن الآخر قدرة أو مهارة أو طموحًا أو حتى دموية، هما «الحجاج» و«ابن الأشعث». تعددت بينهما الجولات وتوالت المعارك، هذا يفوز اليوم، وذاك يفوز غدًا، لكن «الحجاج» تمكن من حسم الأمر لصالحه فى الختام.
من الملامح الأساسية التى ميّزت التمرد الذى قاده «ابن الأشعث» ضد الدولة الأموية مشاركة عدد كبير من القراء والفقهاء فى المعركة التى نشبت بينه وبين «الحجاج». وانحاز أغلبهم إلى «ابن الأشعث»، وأقلهم إلى «الحجاج»، وظهر من بينهم أيضًا من وقف على الحياد بين الطرفين، مثل «الحسن البصرى».
كان القراء والفقهاء فى تلك الأيام يمثلون الطليعة أو النخبة المثقفة داخل المجتمع المسلم، وكان وجودهم إلى جوار طرف معين فى أى صراع مصدر قوة له وآلة لإضعاف خصمه، لكن الأمر بدا مختلفًا فى تجربة هذه النخبة مع «الحجاج». كان «ابن يوسف» داهية سياسية بالمعنى الكامل للكلمة، يعلم أن كثرة من المؤثرين يحركهم خليط من المبادئ والمطامع، فكان يعطيهم، ويجزل لهم فى العطاء مقابل الولاء للدولة. وعندما يخرج الفقيه على الأمويين، فيخلع بيعة الخليفة من رقبته، كان يعرف كيف يعالجه بإقامة الحجة عليه، ويعاجله بالتأديب حتى ولو كان بالقتل، كما فعل مع واحد من أشهر الفقهاء المنحازين لـ«ابن الأشعث»، وهو العالم الفقيه «سعيد بن جبير».
انحاز «ابن جبير» إلى «ابن الأشعث» حين تمرد على الدولة الأموية، وأعلن معه خلع بيعة الخليفة عبدالملك بن مروان وقائده «الحجاج» من رقبته. واجه الحجاج التمرد وتمكن من إخماده بعد سلسلة من المعارك المضنية. بعد هزيمة «ابن الأشعث» هرب سعيد بن جبير إلى أصبهان، ومنها إلى مكة، حيث قبض عليه واليها خالد بن عبدالله، وأرسل به إلى الحجاج.
وقع بين الرجلين هذا الحوار الذى حكاه «ابن كثير»: «فلما أوقف بين يدى الحجاج قال له: يا سعيد ألم أشركك فى أمانتى؟. ألم أستعملك؟ ألم أفعل ألم أفعل كل ذلك؟. يقول: نعم!. حتى ظن من عنده أنه سيخلى سبيله، حتى قال له: فما حملك على الخروج علىَّ وخلعت بيعة أمير المؤمنين؟، فقال سعيد: إن (ابن الأشعث) أخذ منى البيعة على ذلك وعزم علىَّ، فغضب عند ذلك الحجاج غضبًا شديدًا، وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه، وقال له: ويحك ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبدالملك؟. قال: بلى! قال: ثم قدمت الكوفة واليًا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية؟، قال: بلى!، قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتفى بواحدة للحائك ابن الحائك؟. يا حرسى اضرب عنقه، فضُرب عنقه».
حوارات كثيرة بين الحجاج وسعيد تجدها متناثرة فى كتب التراث، يشير بعضها إلى أن «الحجاج» هم بالعفو عن «سعيد» لولا حديثه عن بيعته لابن الأشعث، وأن الحجاج استشاط غضبًا لما سمعه يحتج بها، فى حين أن فى رقبته بيعتين للخليفة عبدالملك. لا نستطيع أن نقرر هل الذى ساق «سعيدًا» إلى هذا المصير طموح إلى المناصب السياسية، وأنه طمح إلى المزيد منها مع «ابن الأشعث».. أم أن قسوة «الحجاج» وولاءه الكامل للدولة الأموية دفعاه إلى الترخص فى دم الفقيه الكبير؟
فى كل الأحوال يشهد الحوار السابق على أن الحجاج لم يقتل سعيدًا إلا بعد أن أقام الحجة عليه. وتذكر كتب التراث أن «الحجاج» ندم ندمًا شديدًا على قتل سعيد ومات بعده بأربعين يومًا. وكان آخر كلمات ينطق بها: «ويل لى من سعيد».