رمضان «وروايح التكنولوجيا»
رمضان التسعينيات بدأ ربيعًا وانتهى خريفًا عاصفًا. أطل هلال رمضان ١٤١٠ هجرية يوم ٢٧ مارس ١٩٩٠، فى حين أطل هلال رمضان عام ١٤٢١ يوم ٢٧ نوفمبر عام ٢٠٠٠.
دار الزمان دورته وتغيرت أشياء كثيرة فى ذلك الوقت، فأصبح الفانوس الشمعة ذكرى، أو مجرد أنتيكة يتمسك بها من جرى بهم العمر من أجل استعادة ماضٍ لا يعود، حتى الفانوس البطارية الذى لم يتخل عن الشكل التقليدى للفوانيس اختفى أو كاد، وحلت محله فوانيس من نوع جديد، عبارة عن لعب ترقص وتغنى وتضىء، أصبحت للفوانيس أسماء مستمدة من الشخصية التى تم صب اللعبة فيها. ظهر هذا النوع من الفوانيس على استحياء أواخر التسعينيات، ثم انفجر بركانًا أوائل الألفية الجديدة.
الزينات التقليدية بدأت أيضًا فى الاختفاء من حوارى المحروسة، ومنها: حبال الورق الملون، وأفرع النور التقليدية، واختفت أيضًا الفوانيس التى كانت تصنع من عيدان الأقفاص فى السبعينيات والثمانينيات ويوضع فيها «مصباح» يضىء ليالى الشهر الفضيل، وحلّت محلها فوانيس مصنوعة، ثم بدأت «عيدان النور» تنتشر فى كل اتجاه، وأصبحت الزينة الرسمية لرمضان، وهى مستوردة من الخارج، وقادرة على تقديم أضواء ملونة متماوجة، تحكمها دائرة كهربية بسيطة.. إنه غزو التكنولوجيا الذى وجد مرتعًا له فى طقوس رمضان التسعينيات.
غزو التكنولوجيا كان الملمح الأهم لرمضان التسعينيات وما حدث فيه من تحولات، ليس على مستوى زحف الفوانيس الجديدة فقط، بل على مستويات أخرى عديدة، أهمها الغزو الفضائى الذى بدأ فى الظهور منتصف الثمانينيات، ومؤكد أنك تستوعب أننى لا أرمى إلى رحلات الفضاء، بل إلى القنوات الفضائية بعد أن وضع رمضان المصريين أقدامه على عتبة السماوات المفتوحة. بدأت أطباق البث فى الانتشار لدى فئة معينة من الأثرياء، ثم انخفضت أسعار «الدش والريسيفر» حتى باتا فى متناول الكثيرين، فظهرت الأطباق فوق أسطح المنازل طبقًا فوق طبق.
دخل الموبايل- أخطر مخترع تكنولوجى أواخر القرن الماضى- إلى حياة المصريين وتمدد زحفه خلال فترة التسعينيات، فباتت الرنات الرمضانية «أغانى رمضان أو أدعيته» مظهرًا من مظاهر استخدامه، بل وأصبحت برامج الأذان هى المصدر الرئيسى لمعرفة مواقيت دخول وقت الصلاة، بدلًا من صوت المؤذن فى الراديو أو التليفزيون أو المسجد. أشياء عديدة ارتدت ثوب «الافتراضية» فى مجال العبادات والشعائر الدينية، وأخرى فى الطريق، ولا يدرى أحد كيف سيكون حال العبادة مع ترسخ مفهوم «الإسلام الرقمى»؟.
زحف التكنولوجيا خلق مناخًا مواتيًا لتراجع العديد من العادات الرمضانية التقليدية فى حياة المصريين فى التسعينيات. فعادة الانشغال فى المطبخ لإعداد موائد الإفطار بدأت فى الاختفاء لدى بعض الأسر لحساب «الدليفرى»، والأيام البهيجة واللحظات الآسرة التى كانت تضم أفراد العائلة لعمل «كعك العيد» آخر أيام رمضان تلاشت، وتحولت إلى ذكرى لدى العديد من الأسر، التى باتت تؤثر «الكعك الجاهز» على المسكين المصنوع يدويًا.
أشياء يدوية كثيرة بدأت رحلة الاختفاء خلال هذه الحقبة، بما فيها أشهر حلوى رمضانية «الكنافة والقطائف»، فبدأت «الكنافة» الآلية فى السيطرة، وتراجع الطلب على «اليدوية» فبارت صناعتها وتجارتها، والأمر نفسه ينطبق على «القطايف». المفارقة أن صناعة هذه الحلوى تراجعت لدى بعض الأسر أيضًا، وأصبح أفرادها يعتمدون على الكنافة الجاهزة وغيرها من الحلوى التى يتم شراؤها من محلات الحلويات، أو فتارينها فى الأحياء الشعبية، حتى المشروبات اعتراها عارض جديد، فبعد أن كان رب الأسرة أو ربتها يسليان صيامهما فى إعداد «العرقسوس» و«التمر هندى» و«الخروب» وغيرها من المشروبات الرمضانية داخل البيوت، مال البعض إلى عدم إرهاق الأيدى- التى ليست لها شغلة ولا مشغلة- فى ذلك، وشرائها جاهزة من الباعة الجائلين أو محلات العصير.
الكثير من مباهج رمضان التسعينيات لم تعد تُجهّز باليد كما كانت الحال خلال الحقب السابقة، بل بات كل شىء مصنوعًا أو مستعارًا من الخارج الذى لا يعرف عن رمضان سوى أنه شهر يمتنع فيه المسلمون عن الطعام والشراب من الفجر وحتى المغرب. وأسهم فى تكريس هذه التحولات تدفق بعض المال على مصر، بعد ما قدمته من مساهمات فى حرب الخليج الثانية أدت إلى إلغاء بعض الديون المستحقة علينا، كما أسهم طوفان الخصخصة فى ميلاد طبقة ثرية جديدة.
أدت مساهمات مصر فى حرب الخليج الثانية إلى مكاسب عديدة- أبرزها إسقاط العديد من الديون عن مصر- أوجدت نوعًا من الانتعاش بأسواق التسعينيات، ثم كانت عاصفة الخصخصة، والانتقال من انفتاح «السداح مداح» إلى مجتمع «كل شىء مباح»، فباتت أشياء عديدة متاحة للطبقات الثرية، وأسهمت التكنولوجيا الصينية فى تقديم الشبيه الأرخص للبضائع الغالية لتتاح للأقل قدرة، وانفجر بركان التطلعات لدى العديد من الأفراد، وأصبح «كله يقلد كله». وتبددت العديد من الطقوس الرمضانية العتيدة فى زحمة هذا التحول الذى شكلت التكنولوجيا رأس حربته.
ويبدو أن المجتمع الرمضانى فى مصر أراد أن يغير جلده خلال فترة التسعينيات، تمهيدًا للانقلاب الكبير الذى حدث فى الطقوس الرمضانية المعتادة، وظهور الطقوس الجديدة البديلة التى بدأت تسيطر على مشاهد شهر الصوم، مع مطلع الألفية الجديدة.
وكل رمضان وأنتم بخير.