مصر مركزًا للحبوب الروسية.. لماذا؟
مصر تتحول إلى مركز عالمي لتصدير القمح الروسي إلى الشرق الأوسط وإفريقيا والعالم.. مشروع فازت به القاهرة، بالرغم من المنافسة الإقليمية الشرسة، تجسيدًا لاستمرار صحوة العلاقات المصرية ـ الروسية، رغم أنف كل من راهن على تفكيك العلاقات بيت القاهرة وموسكو، ونتيجة حتمية للموقف المصري المتزن من الحرب في أوكرانيا.. نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي فيرشينين، أعلن أن (مصر ستصبح مركزاً للحبوب الروسية في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا).. وقال، إن (مصر اعتمدت خلال السنوات الأخيرة على الحبوب الروسية، لا سيما القمح، بسبب جودتها وسعرها)، وبالتالي فهي المؤهلة (لتصبح مركزاً للحبوب الروسية، يقوم بتوريد منتجات مجمع الصناعات الزراعي الروسي).
هذا الكلام ليس تصريحًا عاديًا، ولكنه بداية لمباحثات ثنائية في ملف أن تُصبح مصر مركز تجمع للمنتجات الروسية، ومن مصر، تنطلق تلك المنتجات، وعلى رأسها الحبوب، إلى كافة دول الشرق الأوسط والقارة الإفريقية والعالم، نظرًا لتميز وجود مصر في الشمال الإفريقي، وإطلالتها على البحرين، المتوسط والأحمر، مما يعني توسطها بين أسواق شرق وشمال وغرب القارة السمراء.. كذلك تمتلك مصر ستة موانئ عملاقة تتسع لسفن حمولة ستين ألف طن، وهو ما تفتقده العديد من دول أوروبا، منها ميناءان على البحر الأحمر، السويس وسفاجا، ومعهما ميناء للحاويات في العين السخنة، ثم أربعة موانئ على البحر المتوسط، هي بور سعيد، دمياط، الإسكندرية والدخيلة، وقريبا ينضم إليهم ميناءا العلمين والعريش.
تعتمد مصر وغالبية الدول العربية والإفريقية على الحبوب والأسمدة الروسية، نظرًا لقرب المسافة بين روسيا والمنطقة العربية والإفريقية، وكذلك اعتدال أسعار القمح الروسي وجودته، لكن أحيانا تكون أسعار النقل البحري ـ التي تتزايد مع زيادة أسعار البترول ـ عبئًا ثقيلًا على الدول العربية والإفريقية.. ومن المقترح أن يكون لروسيا صوامع ومخازن للحبوب والأسمدة في مصر، يمكنها تقريب المسافات مع الدول العربية والإفريقية، وبالتنالي تقليل نفقات الشحن، مع سرعة وصول الشحنات إلى هذه الدول.. وهنا يمكن لروسيا إقامة الصوامع اللازمة لذلك في أحد الموانئ، لخدمة دول شمال وشرق المتوسط، ومعها دول غرب إفريقيا، وآخر على البحر الأحمر لخدمة الاحتياجات الخاصة بالحبوب والأسمدة لدول شرق إفريقيا، وهي المستورد الأكبر للحبوب والأسمدة من روسيا.
تحدث هذه الترتيبات دون أن تخسر مصر أي من بنود علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة أو بريطانيا أو الاتحاد الأوروبي، وقطعًا لن تخسر أي شيئ مع الصين أو الهند، إذ إن وجود المنصة الروسية للحبوب في مصر، يُعد بندًا من بنود الاستثمار الأجنبي، يفتح مجالًا لفرص عمل كثيرة أمام الشعب المصري، مما يعني مرتبات وإيجارات وفواتير وضرائب ورسوم، وكلها عملة صعبة تدخل البلاد، لتستفيد منها الحكومة والشعب معًا.. هذه المنصة، أو سمها (الفرصة)، لم تكن لتسنح لمصر، لولا تطوير الموانئ المصرية، التي بقيت مصرية، ردًا على من يرددون شائعات ساذجة عن بيع موانئ مصر للغير، وهي الموانئ التي ظلت مصرية بدماء شهدائنا، الذين منعوا الإرهاب من إعلان إمارة داعشية في العريش، وحافظوا على ميناء البلدة تحت سيطرة الدولة المصرية، إلى أن طورناه وأعدنا الحياة الطبيعية إلى كافة ربوع محافظة شمال سيناء.. هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق لولا وجود بنية تحتية عصرية.. هذه الفرصة كانت لتضيع على مصر، إن لم توجد طرق سريعة، تساعد شبكة توزيع منتجات المركز الروسي.
لعلنا بذلك نفهم أن كل شيئ مرتبط بغيره.. إذ كيف نُطالب الدولة ببذل المجهود لجلب الاستثمار الأجنبي، دون أن يكون لدينا شبكة مواصلات وطرق ونقل وكباري، سريعة ومتطورة، تساعد في جذب الاستثمار الأجنبي، لأنه لا استثمار مع بنية تحتية متهالكة، أو مع مشاكل في الطاقة.
لقد جاء الاتفاق المصري ـ الروسي الجديد، بعد قرار القاهرة وموسكو بالتخلي عن الدولار الأمريكي، واعتماد التبادل التجاري بين البلدين يالروبل والجنيه المصري.. وهكذا، تكون مصر قد أخرجت القمح من منظومة الدولار، وهو أهم سلعة نقوم باستيرادها.. مصر تتحول عما قريب، منصة للزراعة الروسية في الشرق الأوسط وإفريقيا.. مصر تربح حرب الحبوب مع دول إقليمية، حاولت أن تلعب هذا الدور، ولكنها فشلت.. وهذا يقودنا إلى السؤال: لماذا تُراهن روسيا على مصر كمركز إفريقي للحبوب؟.
من بين تبعات الحرب الروسية ـ الأوكرانية، تراجع الطلب على القمح الروسي، بسبب العقوبات الغربية على روسيا التي تَحول دون سير عمليات توريد القمح على النحو السابق، في الوقت عينه تزداد الحاجة المصرية لاستيراد القمح، بعد تراجع المحصول الأوكراني الذي كانت تعتمد عليه مصر قبل الحرب.. معادلة جمعت مصر وروسيا على طاولة المصالح المشتركة.. فقد شهد القمح الروسي أكبر تراجع في الأسعار خلال مارس الماضي، حسب تقرير نشرته وكالة أنباء (تاس) الروسية، عن أن (أسعار القمح لم تشهد هذا الانخفاض منذ 27 نوفمبر 2019).. وأرجع خبراء هذا الانخفاض إلى تحقيق فائض من القمح على خلفية قلة الطلب من المصدّرين.. ومصر تسعى لأن تضم مركزًا لوجستيًا لتخزين الحبوب وإعادة تصديرها للدول العربية والإفريقية، لا سيما أنها تتوافر لديها الشروط اللازمة للوفاء بهذا الدور المحوري، بدايةً من الصوامع التي زادت طاقتها من نحو 1.4 مليون طن في 2014 إلى 5.5 مليون طن حاليًا.
قد يأتي موقع مصر الجغرافي شرطًا ثانيًا يؤهل مصر لأن تجتذب الرهان الروسي، إلا أن «مصر أكبر دولة زراعية في المنطقة، سواء من حيث الإنتاج أو الاستهلاك، غير أن ما تراهن عليه روسيا ليس التوريد للسوق المصرية فحسب، بل الاعتماد عليها في التخزين والتوريد لبقية الدول، لا سيما بعد تبعات الحرب في أوكرانيا.. وكما قلنا، فإن لدى مصر موانئ عدة، فضلًا عن قناة السويس، وهذه الشبكة تعزز أواصر العلاقات المصرية بالعالم، كما أن اتفاقيات التجارة الدولية التي أبرمتها مصر سهّلت المهمة، مثلاً اتفاقية المشاركة المصرية ـ الأوروبية، التي تسمح لمصر بتصدير سلع زراعية دون تعريفة جمركية، وأيضًا منطقة التجارة الحرة العربية منذ 2005، ومنطقة التجارة الحرة الإفريقية التي انطلقت في 2019.
واتجه البنك المركزي الروسي، مطلع العام الجاري، لإدراج الجنيه المصري ضمن سلة العملات، تمهيدًا لتطبيق آلية تسوية مدفوعات التبادل التجاري بالعملات المحلية بدلًا من الدولار.. وشهد حجم التعامل التجاري بين مصر وروسيا (انتعاشة) ملحوظة، كما علّقت يلينا تيورينا، مديرة قسم التحليلات باتحاد الحبوب الروسي، قائلة إن (مصر هي الدولة صاحبة الريادة في استيراد القمح الروسي)، وأن التعامل التجاري بين مصر وروسيا بالعملات المحلية خطوة ستُغيّر وجه العلاقات بينهما.
اتجاه روسيا لتعزيز العلاقات التجارية مع مصر، اتجاه (صائب)، كما يؤكد أهل الاختصاص، وله تبعات كثيرة، فـ(الحلول المستدامة تأتي من رحم الأزمات).. صحيح أن الحرب رمت بظلالها على العالم، غير أنها نبهت مصر لضرورة التحرك بوتيرة أسرع في ملف الأمن الغذائي، ومن ثم حدثت تحركات دولية حثيثة على شاكلة توطيد العلاقات الروسية ـ المصرية، سواء في منطقة تجارة حرة، أو اعتبار مصر مركزًا استراتيجيًا لتخزين وتصدير الحبوب الروسية، وعلى رأسها القمح.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.