حلم الاستقلال الأوروبى
محاولات، أو أحلام، إخراج أوروبا من القبضة الأمريكية، بدأها الرئيس شارل ديجول، قائد المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألمانى، خلال الحرب العالمية الثانية، ومؤسس الجمهورية الخامسة، الحالية، وأول رؤسائها، الذى كان يحلم بتكوين تحالف عسكرى أوروبى، تقوده فرنسا، ليكون قوة عظمى ثالثة، تنافس الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وشجّع النخب الثقافية على مقاومة الهيمنة الثقافية الأمريكية، كما هاجم، خلال خطاب شهير ألقاه فى ٤ فبراير ١٩٦٥، الوضع الخاص الذى يتمتع به الدولار الأمريكى.
هذه الأحلام، أو المحاولات، القديمة والمستمرة، استعادها الرئيس إيمانويل ماكرون، منذ سنوات، وجددها، خلال زيارته العاصمة الصينية بكين. وفى حوار نشرته جريدة «ليزيكو»، Les Echos، الاقتصادية الفرنسية، أمس الأول، الأحد، طالب بأن يكون «الاستقلال الاستراتيجى» هو «معركة أوروبا»، محذرًا من أن «تسارع الاحتكار الثنائى»، الصينى الأمريكى، أو تصاعد التوترات بين القوتين العظميين، سيؤخر تحقيق الاستقلال الأوروبى. وفى هذا الحوار، وفى تصريحات لاثنين من الصحفيين الفرنسيين، نقلتها جريدة «بوليتيكو»، Politico، الأمريكية، قال إن الأوروبيين قادرون على أن يكونوا القطب الثالث، ودعا إلى تعزيز الصناعات الدفاعية، وتسريع المعركة من أجل الطاقة المتجددة، و... و... وتقليل الاعتماد على الدولار.
تلويح الرئيس الفرنسى بـ«ورقة ديجول»، أو استعادته التوجه الديجولى الرافض للتبعية، وللهيمنة الأمريكية، عززه الطرح الصينى بشأن «هندسة أمنية أوروبية ناجعة ومتوازنة ومستدامة»، الذى كانت موافقة ماكرون عليه، ولو ضمنيًا، مثار أسئلة أو تكهنات أو تحفظات أمريكية، وجدّد الحديث عن احتمالات خروج فرنسا، مرة أخرى، من مظلة حلف شمال الأطلسى، الناتو، الذى تقوم عليه هندسة أوروبا الأمنية، فى الوقت الراهن.
بانتهاء الحرب العالمية الثانية، وضعت غالبية الدول الأوروبية «الكتلة الغربية» أمنها وسلامتها، تحت مظلة «الناتو» الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة، وظلت فرنسا تحت هذه المظلة حتى قرر ديجول، الانسحاب من الجناح العسكرى للحلف، سنة ١٩٦٦، رفضًا للتبعية، وأملًا فى تكوين وقيادة قوة عسكرية أوروبية يستعيد بها مجد بلاده القديم، الذى سحقته أحذية الألمان الثقيلة. غير أن فرنسا عادت إلى الحلف، سنة ٢٠٠٩، زاعمة، بلسان إيرفيه موران، وزير دفاعها، أن عودتها ستدفع عملية إنشاء التكتل العسكرى الأوروبى إلى الأمام، من ناحية، وستمكنها من لعب دور فى تحديد استراتيجية حلف الناتو، من الناحية الأخرى!
قبل وبعد خروج فرنسا من الحلف وعودتها إليه، فشلت كل محاولات إيجاد مظلة حماية أوروبية بديلة للناتو، أو مستقلة عن الولايات المتحدة، التى كان أحدثها دعوة الرئيس ماكرون، فى ٢٠١٨، إلى إنشاء جيش أوروبى موحّد، وهى الدعوة التى سخر منها الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، ووجدها فرصة لمطالبة فرنسا، والدول الأوروبية إجمالًا، بأن تسدّد مساهمتها فى «الناتو»، قبل أن يطالبها، لاحقًا، بزيادة إنفاقها العسكرى إلى ٤٪ من ناتجها الإجمالى، أى ضعف النسبة التى سبق أن ألزمت بها واشنطن دول الحلف.
الاحتفاظ بدول أوروبا، تحت مظلة الحماية الأمريكية، والإبقاء على نوع من العلاقة التراتبية مع الأوروبيين، وفرنسا تحديدًا، قد يكونان، على الأرجح، أبرز أهداف الشراكة الثلاثية، الأمريكية البريطانية الأسترالية، التى قيل إن هدفها هو احتواء التمدد الصينى فى المحيطين الهندى والهادى، بينما قال الواقع إن الولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق هذا الهدف عبر تحالفات إقليمية أخرى، أبرزها التحالف الرباعى، «كواد»، الذى يضم الولايات المتحدة والهند وأستراليا وكوريا الجنوبية. ولعلك تتذكر أن أستراليا كانت قد تراجعت، فى ١٦ سبتمبر ٢٠٢١، عن صفقة شراء ١٢ غواصة من فرنسا، قبل مرور ٢٤ ساعة على القمة التى عقدها الرئيس الأمريكى ورئيسا وزراء بريطانيا وأستراليا، والتى تم خلالها الإعلان عن الشراكة الأمنية بين الدول الثلاث.
.. وتبقى الإشارة إلى أن جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية، رأت أن زيارة ماكرون إلى بكين «أكدت مرة أخرى أن الحلفاء لا ينظرون إلى الأمور من الزاوية نفسها»، موضحة أن هذه الزيارة قالت «لا» بشكل صريح لنهج الولايات المتحدة الاقتصادى الساعى إلى تطويق الصين بعد أن صارت المنافس الأكبر لها.