رمضان «التواصلية الجماعاتية»
رمضان الثمانينيات كان صيفيًا. فقد أطل هلال رمضان عام ١٤٠١ هجريًا يوم ٢ يوليو عام ١٩٨١. ويبدو أن الأحداث أيامها اكتسبت نوعًا من السخونة من حرارة الجو. فالصراع بين الجماعات الإسلامية التى أفسح لها السادات الطريق لتسيطر على المساجد والنقابات، بل وتفرض نفسها على الشارع والسلطة السياسية، كان على أشده. مظاهر تمدد الإسلاميين كانت بادية فى كل اتجاه، وصلاة عيد رمضان فى ساحة عابدين حينها كانت شاهدًا على ذلك. «السادات» كان يراقب الظاهرة الآخذة فى التضخم ويبيت فى نفسه نية، خصوصًا أن كل الأطياف المعارضة لنظام حكمه باتت متشاركة فى رفض العديد من السياسات التى انتهجها، بدءًا من الانفتاح الاقتصادى، وتولية وجهه شطر الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وإبرامه معاهدة السلام. تعامل «السادات» بقدر واضح من التعالى مع خصومه السياسيين، وقرر الإطاحة بهم فى ضربة واحدة فى ٥ سبتمبر عام ١٩٨١، أى بعد شهر واحد من انتهاء شهر رمضان، وبعدها بشهر استشهد على يد أفراد من جماعة الجهاد فى يوم احتفاله بالذكرى الثامنة لانتصار أكتوبر.
طقس جديد ظهر على مسرح المجتمع المصرى الرمضانى خلال فترة الثمانينيات، تمثل فى «التواصلية الجماعاتية». فبعد حقبتين من الزمان كانت التواصلية الأسرية هى ألمع نجم فى سماء رمضان، بدأت الأوصال تتفكك نسبيًا، وباتت الأسرة الجماعاتية البديلة هى الأساس للتفاعل مع أحداث الشهر الكريم، بالنسبة لقطاع الشباب الذى انضم إليها. لم تعد «لمة البيت» التى تجمع أفراد الأسرة أو العائلة على موائد الإفطار أو السحور أو السمر، هى الأساس لدى هذا القطاع، بل «لمة الجامع»، التى تضم أعضاء الجماعة- من أبناء الحى الواحد- فيما أطلقوا عليه «الإفطار الجماعى»، وكان الأمر يأخذ شكلًا أكثر اتساعًا وتمددًا ليجمع أفراد الجماعة من أحياء ومواقع مختلفة، بل ومحافظات مختلفة، لتضمهم مائدة ضخمة داخل إحدى الساحات المتسعة، كما كان يحدث فى ساحات المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة، أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
«التواصلية الجماعاتية» تجلت أيضًا فى ظاهرة صلاة التراويح، فبدلًا من أدائها فى المسجد القريب من البيت، أو داخل البيت نفسه، بدأت صلاة التراويح تتحول إلى طقس جماعاتى يضم المئات من المصلين الذين يهرولون إلى بعض المساجد التى اشتهر أئمتها بعذوبة الصوت فى تلاوة القرآن الكريم، وحلاوة الدعاء الذى يتردد على ألسنتهم، ليصلوا خلفهم. ولا أجدنى بحاجة لأذكر لك أسماء مساجد كانت تشد إليها الرحال فى ليالى رمضان، يتزاحم فيها المصلون، ويصطفون فى صفوف تغلق الشوارع المحيطة بالمسجد. هكذا حلت صلاة التراويح الجماعاتية محل صلاة التراويح الأسرية التى كان يؤمها الأب ومن خلفه الزوجة والأبناء والأحفاد، إحياءً لسنة قيام الليل فى رمضان، بل إن أفراد الأسرة الواحدة باتوا من الاختلاف، بحيث تجد أحدهم يصر على صلاة التراويح فى هذا المسجد وراء هذا الإمام الشهير، ويصر آخر على أدائها فى أقرب مسجد كما تعود، ولا يرى ثالث غضاضة فى أن يؤديها فى البيت.
ظاهرة جماعاتية من نوع آخر بدأت تسود أجواء رمضان وليالى رمضان مصر الثمانينيات، تتمثل فى «موائد الرحمن». وهى ظاهرة قديمة متجددة، تعود إلى زمن الدولة الطولونية، ثم الفاطمية، ثم عصر المماليك والعثمانلية، وتواصلت إلى عهد أمراء الدولة العلوية. وكان الأساس فيها أن يقيم الأمراء موائد يفطر على طعامها الفقراء. تلاشت هذه الظاهرة مع قيام الجمهورية واختفاء الأمراء، وباتت مقصورة على بعض التجار فى الأحياء الشعبية الذين كانوا يمدون موائد الإفطار خارج محالهم ووكالاتهم لإطعام العاملين لديهم وعابرى السبيل، خلال فترة الستينيات والسبعينيات. عادت الظاهرة من جديد فى الثمانينيات فى سياق ما أطلق عليه موائد الرحمن، ولم يعد أمر إعدادها مقصورًا على التجار، بل امتد إلى الجمعيات الخيرية داخل المساجد، وبعض الفنانين والمشاهير، بالإضافة إلى الجماعات الإسلامية التى باتت منتشرة فى كل اتجاه.
حلت الأسرة الرمضانية البديلة محل الأسرة الرمضانية الأصيلة، وباتت التواصلية الأسرية الدافئة تواصلية تنظيمية، دعمًا من الظاهرة لحالة الفقر التى استفحلت فى الثمانينيات، نتيجة الأزمة المالية العاصفة التى مرت بها مصر وتراكم الديون فى ذلك الوقت، وغياب دور الدولة، وصعود أدوار الجماعات فى تزويد مريديها ببعض ما يحتاجون إليه من غذاء وملابس ورعاية صحية وخدمات تعليمية، وكان شهر رمضان الكريم فرصة لتلميع هذه العطاءات. ويصح أن نسأل فى هذا السياق: هل نلوم من يبحث عن لقمة أو «هدمة» أو خدمة حين يدخل دائرة الاستقطاب الجماعاتى.. أم نلوم الأسر المقصرة فى احتواء أبنائها.. أم نلوم الدولة التى غابت أدوارها حينذاك؟
تفكك من نوع جديد بدأ يظهر داخل الأسرة المصرية، كان موضوعه الأول برامج التليفزيون فى رمضان. فمع تألق نيللى وشريهان فى فوازير رمضان، ومع تدفق برامج المنوعات على شاشة التليفزيون، وكثرة المواد التليفزيونية المسلية خلال الشهر الكريم، بدأت الأسرة الواحدة تنقسم ما بين مؤيد للفتاوى العشوائية التى أطلقها البعض بأن مشاهدة التليفزيون فى رمضان ينقض الصيام، ومعارض لهذا الكلام. كانت مساحة التسامح آخذة فى الانحسار والتراجع، ليختلف الحال عما كان عليه خلال رمضان الستينيات والسبعينيات، حيث كان سكان البيت الواحد يتزاحمون داخل الشقة التى يتوافر بها تليفزيون ليستمتعوا معًا بمشاهدة التليفزيون، دون أن يتوقف أحد أمام سؤال الحلال والحرام فى المتع الرمضانية البريئة التى يعيشها المشاهد وسط حالة ناعمة من الدفء الجماعى.
كانت «ذهنية التحريم» تزحف ومشرط تقطيع الأوصال دائب فى العمل.