الطفل «ش».. الخاسر الوحيد
«يهادن الأزهر السُلطة. يسترضي المسيحيين. يخالف دين الله ويلقي بالطفل بين أيادي الكافرين».
«كنيستنا ضعيفة. تخشى الأزهر ولا طاقة لها بالصدام أو الدفاع عن أبنائها، وانتزاع الطفل من بين أيادي الكافرين».
هذه بعض تعليقات فريقين من المتطرفين يرى كلاهما في انضمام الطفل «ش» إلى الدين الذي يتبعونه نصرًا عظيمًا يستحق إيقاظ الفتنة وحرق البلد. لا يهم ما ستؤول إليه الأمور، ولا مصير الطفل نفسه. المهم فقط هو الإحساس بالفوز والغَلَبة.
لا حاجة لنا إذن بعدو خارجي يحيك المكائد ويدبّر المؤامرات ويسعى لإشعال نار الفتنة، فبين بني جلدتنا، من «الأغبياء» مَن يؤدي المهمة دون مقابل.
قطعان من الجَهَلة معدومي الضمير والإنسانية وحتى «الدين»، يقامرون ليس فقط بمصير ومستقبل طفل لا يعرفون عنه سوى اسمه، بل يقامرون على مصير أمة قد تشتعل بها فتنة من مستصغر الشرر، وليست أحداث «كاميليا شحاتة» منّا ببعيد.
في مرافعته الشهيرة في فيلم «ضد الحكومة» أطلق أحمد زكي مقولته الأيقونية «كلنا فاسدون». وفي واقعة الطفل «ش»، لم يسلم أحد من «الجُبْن» وغض الطرف عن جريمة مكتملة الأركان، تمثّلت في انتزاع طفل من أحضان أسرته وإلقائه في دار رعاية، لأن «القوانين» تقضي بذلك. تبًا لقانون معيب كهذا.
منذ اللحظة الأولى للطفل «ش» في هذه الحياة، والجرائم تلاحقه. أبوان خائنان للأمانة ألقيا به رضيعًا في الكنيسة أو خارجها أو في أي مكان. امرأة لا يروق لها بقاؤه بين أحضان أسرة على خلاف معها. قوانين معيبة تنتظر البت في «دينه» حتى يرتاح ضميرها أنه لن ينضم للفريق الخطأ.
أنا لا أطالب هنا سوى بإعمال العقل والقلب حتى لا يتعرّض أبرياء آخرون للمصير نفسه، حتى لا يكبر الطفل فيلعن الجميع ويعلن اليوم الذي أتى فيه إلى الدنيا، التي قد لا يرى فيها أينما حل أو رحل سوى «الوصم والعار» على فعل لم يرتكبه.
في مقال له على «فيسبوك»، أشار الدكتور نصر محمد عارف، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، إلى واقعة تاريخية غاية في الأهمية جاء فيها أن ابن عابدين الدمشقي، وهو أحد كبار علماء الفقه الحنفي، والمتوفي سنة 1836 ميلاديًا، جاءه رجلان يختصمان على طفل، أحدهما مسيحي ويدّعي أن الطفل ولده، والآخر مسلم ويدّعي أن الطفل عبد مملوك له، فقضى «ابن عابدين» للمسيحي، وقال «لأن يكون الطفل حرًا ومسيحيًا خير له من أن يكون عبدًا ومسلمًا». وكانت العلّة هنا هي المصلحة الفضلى للطفل.
أما بالنسبة لقطيع «الأغبياء» السائرين في ركب «عاوزينها تولع»، فهناك واقعة تستحق أن تروى أوردها الكاتب الصحفي والإعلامي محمد الباز، في أحدث ما كتب عن الدكتور نصر حامد أبوزيد، الذي اتُهِم زورًا بـ«الكفر» وأراد أن يرد هذا الظلم عن نفسه. وأنقل الواقعة بنصها:
في إحدى مساءاته التي امتدت بين العامين 92 و95 توقف هو وابتهال [زوجته] وهما فى طريقهما للمنزل عائدين من الجامعة عند سوبر ماركت لشراء بعض المستلزمات لإجازة طويلة قررا أن يقضياها فى البيت لا يخرجان منه.
دخل نصر السوبر ماركت، بدأ هو وابتهال في جمع أغراضهما في عربة التسوق، وقبل أن يخرج وقف أمامه رجل كبير في السن وأخذ ينظر إليه متأملًا، وقبل أن يسأله نصر عما يريده، اقتحمه الرجل العجوز وهو ينظر إليه من أعلى إلى أسفل: هل أنت؟
كان نصر يعرف ما الذى يريده الرجل، ففي هذا الوقت وأينما ذهب كان الناس يسألونه إن كان هو الرجل المتهم بالكفر، وكان يجيبهم متململًا ساخرًا مستهزئًا: نعم نعم.. أنا هو.
الرجل العجوز كان مختلفًا، لم يتوقف عند السؤال الذى قطعه نصر عليه، فقد أعصابه وبدأ يصرخ فى وجهه، وهو يقول له: ألا تشعر بالخجل من نفسك؟ أنا أعرف أن والدك رجل مسلم، أليس كذلك؟ نعم بالفعل واسمه حامد، كيف تعتبر نفسك أنت مسلمًا؟ كيف وأنت من أبوين مسلمين تهين القرآن الكريم، ألا تشعر بالخجل من نفسك؟ لا بد أنك مجنون.
ترك نصر الرجل العجوز يقول كل ما يريده، ثم سأله: من فضلك.. هل انتهيت؟
فأجاب: نعم.. انتهيت.
كانت كأس نصر ممتلئة فأفاضت.
قال للرجل: حسنًا من فضلك استمع لي، لقد شاهدتني لمدة عشر دقائق في هذا السوبر ماركت، شاهدت كل إنش من جسدى ووجهي، فأخبرني إذا لم تكن على دراية بما سمعت عني، ما الانطباع الذي كنت ستأخذه عني؟ هل أبدو لك في حاجة لعلاج نفسي؟ أم أبدو طبيعيًا؟ أنت بالفعل لا تعرفنى بشكل شخصي، ما حكمك؟
اعترف الرجل: أنت تبدو طبيعيًا مثل الجميع.
سأله نصر: إذن أنا لست مختلًا عقليًا، لست مجنونًا؟
سارع الرجل: لا.. لا تبدو مجنونًا.
عاد نصر إلى الحديث: أخبرني إذن لو أن شخصًا لا يبدو مجنونًا بل طبيعيًا مثل ابنك ربما، يعمل فى جامعة القاهرة فى مجتمع مسلم مثل مصر، وأراد الحصول على ترقية ترفع من راتبه ليوافق الزيادة فى أسعار المعيشة، هل تعتقد أن هذا الشخص الطبيعي لو تقدم لنيل ترقية سيعلن إلحاده أمام لجنة الممتحنين؟، أنا لا أتحدث عما إذا كان ملحدًا أم لا، لدينا بالفعل ملحدون في مجتمعنا ويظهرون أنفسهم كمؤمنين، لكن لو لم تكن صائمًا فى رمضان، هل ستذهب لتأكل أمام الجميع؟ بالطبع لا.. ستذهب لتأكل خلف باب مغلق، إذن حتى لو كنت ملحدًا، هل كنت سأعلن هذا أمام الجامعة وأطلب منها ترقيتي؟ كيف كنت سترى شخصًا يفعل ذلك؟
أجاب الرجل: سيكون مجنونًا بالطبع.
عاجله نصر: لكنك قلت لتوك إنني لست مجنونًا، هل تعتقد أنى مجنون؟ فقال الرجل: لا.
أمسك نصر طرف الخيط من جديد: هذا صحيح، رجل عاقل مثلى كان سيقدم شيئًا لائقًا للجامعة، شيئًا مخلصًا للإسلام، ثم بعد أن أنال الترقية ربما سأظهر إلحادي، لأنني مثلك تمامًا، الحياة صعبة، أحتاج لراتبي، وهذه هي زوجتي- قدم ابتهال له- وأنت تعلم الأسعار هنا.
استرد الرجل الذى كان يهاجم نصر هدوءه ليسأله: إذن لماذا يتهمك هؤلاء الناس بذلك؟ هم ليسوا أغبياء إنهم رجال دين طيبون؟
اتفق معه نصر: نعم هم رجال دين طيبون، هل تريد أن تعرف ما المشكلة؟
أجاب الرجل في إصرار: نعم أخبرني.
قال نصر: لقد انتقدت هؤلاء الرجال الطيبين، لأنهم يدعمون شركات توظيف الأموال الإسلامية، ولأنهم نفس الرجال الذين سرقوا الشعب المصري.
صرخ الرجل: لعنهم الله جميعًا، ثم سأل: إذن هذا هو سبب كل هذا اللغط حولك؟
أجاب نصر للمرة الأخيرة: هذا هو السبب تحديدًا، هل تعرف اسم الرجل الذى اتهمني بالردة؟ لقد كان- يقصد الدكتور عبدالصبور شاهين- مستشارًا شرعيًا لإحدى تلك الشركات، لهذا السبب انتقدته، أنا مجرد مصري مثلك، ولأنه لم يكن لدىّ أي أموال لأستثمرها، لم أخسر شيئًا مثلك، لكنني كنت أدافع عنك، عن ابنك وحفيدك ضد هؤلاء الناس الذين استطاعوا أن يسرقوا الآخرين باسم الدين.
انهار الرجل تمامًا قبل أن يقول: يا بنى لم أكن أعرف، أنا آسف، لم أكن أعرف.
ثم تقدم ناحية نصر وقبله واحتضنه وسط السوبر ماركت المزدحم.
انتهى الحوار.
قليل من العقل والتبصّر يحمى، قليل من الإنسانية لا يضر.