«القمار القهرى».. مراهنات كرة القدم تدمر الصحة العقلية لدى الشباب والأطفال
مجموعة من الشباب في سن العشرينيات، أكبرهم لم ينه دراسته حتى الآن، اختاروا أسهل طريقة للحصول على المال عبر المشاركة في مراهنات كرة القدم التي توغلت في حياة العديد من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، وورطت معظمهم في أزمات صحية ومادية وقانونية، ولم تقتصر على ذلك فقط بل تطرقت مؤخرًا لهواتف الأطفال في المدارس، وأصبحت كارثة تهدد مصير أجيال.
تختلف تفاصيل المراهنات الإلكترونية من تطبيق لآخر، فهناك عروض مخصصة لمحبي سباقات الخيول وألعاب الورق، كما كان الوضع في الواقع سابقًا، لكن حين انتشرت التطبيقات الإلكترونية التي تروج لمراهنات كرة القدم في مختلف البطولات المحلية والدولية، أصبحت اللعبة المفضلة لدى العديد من الشباب والأطفال؛ كونها تعتمد على الرياضة الأشهر في العالم، ودائمًا هناك من يتابعها.
في السنوات الماضية، تطورت مراهنات كرة القدم في مصر، وأصبحت هناك فرص عديدة للرهان على فرق معينة في الدوري المصري الممتاز، ودوري الدرجتين الثانية والثالثة، الأمر الذي حفز الصغار على المشاركة وكسب المال السريع، لكن غالبًا ما تكون النهاية غير سعيدة.
طريق مسدود
يحكي مؤمن، (اسم مستعار)، تجربته طوال عامين في عالم المراهنات الرقمية لكرة القدم، التي كان يرغب في البداية أن تكون سرية حتى لا يلاحظ أحد أنه يكسب أموالا حراما، لكن قوانين اللعبة أرغمته على إقناع زملائه في الجامعة بمشاركته في هذا الطريق المسدود، فالعروض الأكثر ميزة في اللعبة هي توزيع "بروموكود" على الأصدقاء لدعوتهم إلى اللعب والرهان باستخدام رمز معين، الأمر الذي يحقق أرباحا طائلة لصاحب الدعوة.
ويستكمل "مؤمن" حديثه لـ"الدستور"، موضحًا أن التطبيق يوفر العديد من المراهنات على مختلف البطولات الرياضية، فهناك مباريات تكون نتيجتها متوقعة قبل أن تبدأ، مثل مباراة تجمع بين فريق مانشيستر سيتي الإنجليزي وفريق آخر في آخر تصنيف الدوري الممتاز، لذا يصبح المكسب مضمونًا في أغلب الأوقات؛ ما يشجعنا كلاعبين على الدخول في أكثر من رهان في الوقت نفسه.
الكارثة بدأت حين اكتشف الشاب وزملاؤه خاصية داخل التطبيق تمكنهم من لعب مباريات (بلاي ستيشن) ضد بعضهم البعض، بالمبالغ التي يتفقون عليها سويًا، ومن هنا شهدت صالات الألعاب الإلكترونية في مصر العديد من النزاعات اللفظية وأحيانًا الجسدية بين اللاعبين من الشباب والأطفال.
يتذكر "مؤمن" اللحظة الأكثر قسوة: "في إحدى المرات التنافسية مع أحد زملائي في لعبة (البلاي ستيشن)، قمت بصفعه على وجهه باستخدام الدراع الإلكترونية الخاصة بي، بعد أن أدركت خسارتي في المباراة التي شهدت أحد أكبر رهاناتي بمبلغ قدره 10 آلاف جنيه، خسرتها في ذلك الوقت وخسرت معها صديقي أيضًا".
ينوّه الشاب العشريني إلى أن صحته العقلية ليست على ما يرام، بل تتدهور يومًا بعد يوم منذ انغماسه في هذه اللعبة الخطيرة، فرغم المكاسب المالية الكبيرة التي يحققها من الرهانات اليومية، إلا أنه يخسر كل ذلك في لحظة واحدة، حين تسوقه نفسه للمجازفة بمبلغ مالي كبير، ويطمع في تحقيق مكاسب أعلى.
احتيال إلكتروني
ومن جانبه، يوضح المهندس شاكر الجمل، خبير أمن المعلومات، أن القمار الإلكتروني أصبح أحدث وسائل النصب والاحتيال في عالم الجريمة، ويعتمد عليه العديد من شركات الرهان في تحقيق المكاسب المالية السريعة، فاللاعبون يراهنون على مكسب فريق ما، ويدفعون على سبيل المثال 10 دولارات، وبعد انتهاء المباراة يستلمون أموالهم أو يفقدونها، وذلك شىء غير مصرح به قانونيًا في مصر.
ويضيف "الجمل": "معظم الألعاب القائمة على الرهان تعد أداة يستخدمها المحتالون فى اصطياد فريسة لهم من خلال التكنولوجيا الحديثة، من خلال حثهم على المشاركة في الألعاب المختلفة مثل الدومينو والشطرنج، حتى تطور الأمر ليشمل مباريات كرة القدم، التي يتابعها معظم فئة الشباب".
ويختتم خبير أمن المعلومات حديثه مع "الدستور"، مشيرًا إلى أن التعاملات المالية تتم عبر استخدام المحافظ الإلكترونية الخاصة بكل هاتف؛ ما يجعل الأمر سهل استخدامه لدى الجميع، لذا يجب ضرورة اتخاذ الحذر من قبل الأهالي لمراقبة أطفالهم حول مدى معرفتهم عن ذلك الأمر الخطير، وحثهم على الابتعاد الفوري عنه.
أما عن تجريم الأمر: "تنص المادة 23 من قانون الجرائم الإلكترونية على أن يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 3 أشهر والغرامة التى لا تقل عن 30 ألف جنيه ولا تتجاوز 50 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من استخدم إحدى وسائل تقنية المعلومات، فى الوصول بدون وجه حق إلى أرقام أو بيانات أو بطاقات البنوك والخدمات أو غيرها من أدوات الدفع الالكترونية. فإن قصد من ذلك استخدامها فى الحصول على أموال الغير أو ما تتيحه من خدمات، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر وغرامة لا تقل عن 60 ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة، والغرامة التى لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تتجاوز 200 ألف، أو إحدى هاتين العقوبتين، إذا توصل من ذلك إلى الاستيلاء لنفسه أو لغيره على تلك الخدمات أو مال الغير".
لحظات مريبة
داخل أحد مراكز الدروس الخصوصية بمنطقة الهرم، كان يجلس 5 طلاب حاملين هواتفهم بتوتر شديد، ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء مباراة المنصورة وبروكس ورك، خلال منافسات دوري الدرجة الثانية المصري، التي انتهت بفوز فريق بروكس ورك 2-1، على عكس ما راهنوا عليه في ذلك اليوم.
يروي تلك القصة محمد الصاوي، أستاذ اللغة الألمانية، كونه كان أحد الشهود على ما تسببت فيه المراهنات الرقمية من عواقب صحية ونفسية لدى الأطفال، حين انتفض من مكتبه داخل المركز على صوت عراك شديد بين هؤلاء الطلاب، حين خسر اثنان منهم الرهان، وكادا أن يتسببا في حدوث كارثة داخل المركز، بعد أن أصابتهما حالة هيستيرية من الغضب.
وبعد أن اطلع "الصاوي" على تفاصيل المشكلة، واستدعى ذويهما للحضور إلى المقر من أجل إبلاغهم بذك، يقول: "اتضح أن الطفلين راهنا على كافة الأموال التي كانت بحوذتهما، وخالفهما الحظ في تلك المرة، لينفجرا في وجه زملائهما الآخرين الذي اشتركوا معهما في الرهان، بعد وصلة من التنمر والتقليل من شأنهما، فالأزمة التي حدثت لم تكن علاقتها مرتبطة بخسارة المال فقط".
إدمان قهري
ومن الجانب النفسي، يقول الدكتور إيهاب حيدر، أخصائي الصحة النفسية والعقلية، إنه يوجد أنواع مختلفة من إدمان القمار أيضًا، فهو لا يقتصر على ماكينات القمار والبطاقات والكازينوهات، وامتد ليشمل هواتف فئة كبيرة من المراهقين في وقتنا الحالي، وفي أغلب الأوقات يحدث عندما يشعر الشخص بأنه في حالة خراب مالي ولا يمكنه حل مشاكله إلا من خلال المقامرة بالقليل الذي لديه في محاولة للحصول على مبلغ كبير من المال.
ويتابع الطبيب حديثه لـ"الدستور": "يؤدي هذا دائمًا إلى دورة يشعر فيها المقامر أنه يجب عليه استعادة خسائره، وتستمر الدورة حتى يضطر الشخص إلى طلب إعادة التأهيل لكسر عادته، لذا يجب أن يكون لدى الشخص المصاب بهذا الإدمان الرغبة في إيقاف هذا السلوك، وليس فقط لإرضاء العائلة والأصدقاء.
ويؤكد "حيدر" أن هناك عوامل أخرى تسهم في إدمان المقامرة، مثل الرغبة في تجربة تحديات مختلفة، والجو الترفيهي لمشهد المقامرة السائد، ولكن بمجرد أن ينتشر إدمان القمار، تصبح السيطرة عليه معقدة للغاية، وغالبًا ما تكون علامات مشكلة القمار مماثلة لعلامات إدمان أخرى، مثل الشعور بالحاجة إلى التكتم بشأن المقامرة، وعدم التحكم في المشاعر، والبحث الدائم عن هذه الشهية.
ويضيف: "غالبًا ما يتسبب الإفراط في لعب القمار في العديد من الأعراض العاطفية، بما في ذلك القلق والاكتئاب وحتى الأفكار والميول الانتحارية، ففي المواقف المتطرفة، قد تدفع هذه الأفكار اللاعب إلى محاولة إنهاء حياته أو حياة أحد زملائه، فإن خسارة كل شيء بسبب القمار أمر مدمر ويجعل الكثير من الناس يشعرون باليأس تمامًا".
ويوضح أخصائي الصحة النفسية والعقلية، أنه يلجأ العديد من المقامرين إلى المخدرات والكحول وأنشطة أخرى للتخفيف من القلق الناجم عن أسلوب حياة القمار، حتى لو لم يتعرض المقامر أبدًا للخراب المالي نتيجة لنمط الحياة، فقد يعاني من إدمان المخدرات والكحول لبقية حياته بعد العلاج الذاتي للتعامل مع التوتر، وغالبًا ما تتضرر العلاقات بشكل دائم نتيجة للمقامرة.
ويختتم: "الطريقة الأكثر شيوعًا لعلاج مشكلة القمار بالأدوية هي وصف الأدوية المضادة للقلق والاكتئاب، فإن علاج هذه الاضطرابات قد يسهل كسر الحلقة والعودة إلى الحياة الطبيعية، ولكن بشرط المتابعة الدورية مع طبيب مختص؛ بهدف وصف العلاج المناسب للحالة، وفقًا لطبيعة حالته الصحية والنفسية".