«عمر» و«خبيب»
عندما جلس «الوليد بن عبدالملك» على كرسى الخلافة الأموية منح عمر بن عبدالعزيز ولاية المدينة، فقدمها سنة سبع وثمانين وثقله على ثلاثين بعيرًا. حتى هذه اللحظة كان «عمر» رجلًا فيه من حظ بنى أمية من الغرام بالدنيا، وله نصيبه من ولعهم بالنفوذ والسلطة، وظل كذلك حتى ظهر «خبيب» فى حياته، فأحدث فى حياة «ابن عبدالعزيز» انقلابًا كان من حظ المسلمين فى عصره، لكنه دفع حياته ثمنًا له.
بدأت الأحداث بكتاب وصل من الخليفة «الوليد» إلى عمر بن عبدالعزيز يأمره فيه بتوسعة مسجد رسول الله، وتدخل فيه المنازل التى حوله، وتدخل فيه حجرات أزواج النبى. ويحكى ابن كثير أن: «عمر بن عبدالعزيز جمع وجوه الناس والفقهاء وأهل المدينة وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الوليد فشق عليهم ذلك، وقالوا: هذه حجر قصيرة السقوف، وسقوفها من جريد النخل، وحيطانها من اللبن، وعلى أبوابها المسوح. وتركها على حالها أولى لينظر إليها الحجاج والزوار والمسافرون وإلى بيوت النبى صلى الله عليه وسلم، فينتفعون بذلك ويعتبرون به، ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد فى الدنيا، فلا يعمرون فيها إلا بقدر الحاجة، ويعرفون أن هذا البنيان العالى إنما هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة وكل طويل الأمل راغب فى الدنيا وفى الخلود فيها».
عند ذلك كتب عمر بن عبدالعزيز إلى الخليفة «الوليد» بما أجمع عليه الفقهاء، فأرسل إليه الأخير يأمره بهدم الحجرات وإعادة بناء المسجد على ما ذكر، وأن يعلى سقوفه، فلم يجد «عمر» بدًا من هدمها، ولما شرعوا فى الهدم صاح الأشراف ووجوه الناس من بنى هاشم وغيرهم وتباكوا مثل يوم مات النبى صلى الله عليه وسلم.
ولما شرع عمر بن عبدالعزيز فى تنفيذ أوامر «الوليد» قام خبيب بن عبدالله بن الزبير إليه والحجرات تهدم، فقال: نشدتك الله يا عمر أن تذهب بآية من كتاب الله، تقول: «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات»، فأمر به فضرب مائة سوط، ونضح بالماء البارد، فمات، وكان يومًا باردًا. فكان «عمر» لما ولى الخلافة، وصار إلى ما صار إليه من الزهد، يقول: من لى بخبيب! وقد تم الانتهاء من بناء وتوسعة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم سنة تسعين.
وتؤشر هذه الواقعة إلى التحول الذى أصاب عمر بن عبدالعزيز بعد الخلافة، وكيف أنه لم ينس موقفه مع خبيب بن عبدالله بن الزبير، بسبب غضب الأخير من فكرة هدم حجرات أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، مطالبًا عمر بن عبدالعزيز بشطب آية «الحجرات» من القرآن الكريم، فما كان من «عمر» إلا أن أنزل به تلك العقوبة القاسية التى أدت إلى وفاته. وحقيقة الأمر أن عمر بن عبدالعزيز لم يقرر هذه العقوبة من عندياته، بل الذى حكم بها هو الوليد بن عبدالملك، ونفذها عمر كوالٍ على المدينة، وكان فيها هلاك «خبيب»، الذى ظلت صورته تطارد «عمر» بقية حياته.
ويبدو أن مقتل «خبيب» كان لحظة تحول حقيقية فى حياة عمر بن عبدالعزيز، إذ ندم على هذا الأمر ندمًا عظيمًا، وأصبح بعده شخصًا آخر غير الذى سبق وعرفه من عايشوه. ويحكى ابن كثير أنه: «لما مات خبيب على يد عمر بن عبدالعزيز ركبه الحزن والخوف من حينئذ، وأخذ فى الاجتهاد فى العبادة والبكاء، وكانت تلك هفوة منه وزلة، ولكن حصل له بسببها خير كثير من عبادة وبكاء وحزن وخوف وإحسان وعدل وصدقة وبر وعتق».
وقد ساعد عمر على هذا التحول القرار الذى اتخذه «الوليد» بعزله عن ولاية المدينة، وكان سبب ذلك أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى «الوليد» يخبره عن أهل العراق، وكيف أنهم يعانون من ضيم وضيق مع «الحجاج» بسبب ظلمه وغشمه، فسمع بذلك «الحجاج» فكتب إلى الوليد يقول له إن «عمر» ضعيف عن إمرة المدينة ومكة، وأن يجعل على الحرمين من يضبط أمرهما، فولى على المدينة عثمان بن حيان وعلى مكة خالد بن عبدالله القسرى، امتثالًا لما أمر به الحجاج.
كتم عمر بن عبدالعزيز فعلة «الحجاج» فى نفسه، وأخذ يقول عنه: «لو تخابثت الأمم فجاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. وقيل إن عمر بن عبدالعزيز كان يبغض «الحجاج»، لكنه نفس عليه بكلمة قالها عند الموت، حين دعا ربه قائلًا: «اللهم اغفر لى فإنهم يزعمون أنك لا تفعل».
دعاء عجيب ذلك الذى دعاه «الحجاج» قبل أن يلقى وجه ربه!