وائل فاروق: هناك توجه عالمي لتسليع الأدب.. ومحفوظ غيّر مجرى حياتي (حوار)
فوز محفوظ بنوبل أدخل تخصص الأدب العربي في الجامعة، لكنه أخرجه، أيضًا، من دائرة المتخصصین، حیث التفت الناشرون إلیه وبدأوا في طرحه للجمھور العام، ھذا ما يؤكده أرشیف المؤسسات المعنیة بالترجمة والنشر في بعض البلدان الأوروبیة.
إنه الدكتور المصري وائل فاروق أستاذ اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب واللغات الأجنبية بالجامعة الكاثوليكية بميلانو من مواليد القاهرة يعمل أستاذ للغة العربية وآدابها في كلية الآداب واللغات الأجنبية بالجامعة الكاثوليكية بميلانو .أستاذ زائر للغة والثقافة العربية في كلية الآداب واللغات الأجنبية بالجامعة الكاثوليكية بميلانو،
قدم الكثير من الرؤى الفريدة فيما يخص خطابات اللغة والسرد العربي في الرواية والشعر عروجا لليال ألف ليلة وتلك السرديات الكبرى و العظيمة التى أثرت وتأثر بها كتاب العالم أجمع.
د.فاروق له كذلك العديد من الأبحاث والرؤى المنجزة والمتفرد ةفي علوم اللغة العربية وآدابها وعلاقتها بالآخر في الثقافة الغربية/ الأوروبية كذلك تناولاته بالبحث الدلالي والجمالي في نصوص كتاب كان لهم الفضلفي تأطير وبلورة الفكر والفن والأداب العربية غبر مدارس شتى في لغات الرمز والإستعارة والكناية وكذلك الشعرية، وائل فاروق يمثل في النهاية همزة وصل هامة وحاذقة للإنفتاح على الآخر الغربي/ الأوروبي/ الإيطالي، الدستور التقته وكان السؤال:
_خرجت من القاهرة منذ مايقارب الـ 20 عاماً، ليتك تحدثنا عن البدايات كيف كانت البدايات؟
أدخلتني أمي عالم الكتب، كانت ككثير من القاهريات اللاتي في النصف الثاني من القرن العشرين نلن حظًا من التعليم ولم يخرجن لسوق العمل؛ تتسلى بالقراءة، كانت شغوفة بقراءة الروايات، ومنذ كنت رضيعًا كانت تقرأ روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي بصوتٍ عالٍ وكأنها تحدثني، وكنت – كما تتندر الأسرة دائمًا – أكف عن البكاء وأنصت للقراءة لوقتٍ قد يمتد لساعات، في طفولتي الأولى كانت الكتب بالنسبة لي صناديق حكايات بصوت أمي، وحتى سن المراهقة عندما كنت أقرأ كانت تتردد داخلي الكلمات بصوت أمي، لم يكن لأي كتاب صوت خاص إلى أن قرأت صلاح عبد الصبور، كان شعره هو كسرة خبز الفطام، لم تكن المرة الأولى التي أقرأ فيها الشعر، فقد كان جدي لأمي حكاءً عظيمًا وكان عاشقًا للشعر القديم وحافظًا له وكان يقص علي طرائف الشعراء ونوادر العرب التي يجمعها من كتب التراث، لكن الشعر والحكايات والأساطير والتاريخ الذي كنت مولعًا بقراءته، كل هذا كان ينتمي لعالم آخر، عالم سحري ينتمي لزمن وجغرافيا بعيدة عني، صلاح عبد الصبور كان أول من يتجاوز عتبة وعيي ويقتحم ذاتي، كنت عضوًا في فريق المسرح في السنة النهائية في المرحلة الإعدادية واختارني مدرس اللغة العربية جمال عبد العظيم لتمثيل دور الحلاج، ورغم قراءتي لعدد كبير من الكتب قبلها كانت "مأساة الحلاج" هي بوابة دخولي الحقيقية لعالم الكتب والكتابة، ولم ينته الفصل الدراسي الأول إلا وكنت قد قرأت معظم أعمال صلاح عبد الصبور خاصة المسرحيات الشعرية التي كانت متوفرة كلها في مكتبة المدرسة، وأذكر أنني طردت من المدرسة أسبوعًا لأن مدرس الدين أمسكني متلبسًا بقراءة مسرحية بعد أن يموت الملك أثناء حصة الدين، حيث كنت أضع المسرحية داخل كتاب الدين وأتظاهر بمتابعة ما يقرأه زملائي، ومما زاد الطين بلة أنه أمسكني عندما كان الشاعر يعلم الملك ومحظياته أغنيات حسية، نظر المدرس في الكتاب فقرأ: "الملك: كالكأس المقلوبة يتدور صدرك..المرأة : مولاي .. ائذن والمسه في خلوه.. يتصبب خمرا حتى تبتل أناملك الحلوة" عندها أصابته حالة هيستيرية وأخذ يصرخ بصوت عالٍ: كالكأس المقلوبة يتدور صدرك في حصة الدين يا فاجر.
_ومن إذا من بين أسماء مبدعينا الكبار الذي كان لهم تأثيرات أولية ومباشرة لرؤى الإكتمال النسبي في ثقافتك وميولك في هذه المرحلة التى كنت تنشد فيها طرح ثمة علاقة متينة بأداب ولغات العالم؟
كان صلاح عبد الصبور ثم طه حسين ونجيب محفوظ من رسم شغفي بهم وكتابتهم مجرى حياتي، فاخترت دراسة اللغة العربية في الجامعة، ثم حصلت على الماجستير والدكتوراه، ثم عملت بالتدريس في الجامعة، الجامعة الأمريكية ثم جامعة نيويورك، ثم عدة جامعات في إيطاليا قبل أن أستقر في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو أستاذا للدراسات العربية والإسلامية فيها بعد أن حصلت على درجة الأستاذية من وزارة البحث العلمي والتعليم العالي الإيطالي، مسيرة تخلو من أي دراما استثنائية، كان الشغف بالمعرفة – أكثر من العقبات والمعوقات – هو دافعي الأول لتعلم لغات أخرى والكتابة والنشر والتدريس بها.
_وماذا تحمل رؤاك الحداثية أو مابعد الحداثية في خطابك السردي والفني الجمالي وتلك الوشائج التى تفعل مقومات وخطابات وسرود الأدب العربي بين العولمة والعالمية؟
أدخل فوز محفوظ بنوبل تخصص الأدب العربي في الجامعة ولكنه أخرجه أيضا من دائرة المتخصصین، حیث التفت الناشرون إلیه وبدأوا في طرحه للجمھور العام، ھذا ما يؤكده أرشیف المؤسسات المعنیة بالترجمة والنشر في بعض البلدان الأوروبیة، حیث مثل العام 88 ، عام نوبل محفوظ، بداية منحنى يصعد باضطراد في ترجمة ونشر الأدب العربي ولا سیما القصة والرواية. ويضيف الدكتور وائل فاروق ، قبل عام 88 لم يكن مترجما لنجیب محفوظ نفسه إلا رواية "الكرنك"، لم يكن مترجما من الأدب العربي كله إلا عدد قلیل جدا من الأسماء وأغلب الترجمات كانت عن لغة وسیطة، وھنا قائمة بكل المؤلفین الذين ترجم لھم عمل أو أكثر حتى عام 88: توفیق الحكیم، جبران خلیل جبران، غسان كنفاني، طه حسین، إمیل حبیبي، محمد تیمور، نوال السعداوي، محمد نجیب، محمد حسین ھیكل، بدر شاكر السیاب، ذو النون أيوب، أمین الريحاني، عبد الله البصیري، إدريس الشريبي، مي زيادة، فدوى طوقان، توفیق فايد، سعد الله ونوس، زكريا تامر، نزار قباني، رشید حمزاوي. ھذا بجانب من نشرت له قصة قصیرة في أنطولوجیا من الأنطولوجیات الخمس للقصة القصیرة التي نشرت قبل فوز محفوظ بنوبل. المحصلة النھائیة لترجمة الأدب العربي إلى الإيطالیة إذن كانت أقل من خمسین كتابا فیما يقرب من قرن من الزمان. بينما يصل مجموع الكتب التي ترجمت من العربية بعد فوز محفوظ بنوبل 527 كتابا، يمثلون 88% مما تم ترجمته من الأدب العربي، أي أن ما ترجم في الثلاثین عاما الأخیرة يعادل ثمانیة أضعاف ما تم ترجمته قبل فوز محفوظ بنوبل. وھو في جمیع الأحوال رقم ضئیل جدا مقارنة بما يترجم إلى الإيطالیة من اللغات الأخرى.
_ إذاً هل من الممكن أن تطرح لنا أمثلة أو ثمة إحصائيات عن مسارات وكم الترجمات التى ساهمت في تأكيد وجود اللغة/ الخطاب العربي وسط آداب ولغات العالم سواء عبر اللغة الإنجليزية أو الإيطالية وغيرهما؟
لا يختلف الأمر كثیرا بالنسبة للغات الأخرى، فقد ترجم إلى الإنجلیزية، حسب إحصاءات الیونسكو، 168 كتابا بینھم 12 كتابا لمحفوظ حتى عام 88، بینما تمت ترجمة 541 كتابا بینھم 62 لمحفوظ منذ عام 88. أما اللغة الفرنسیة فقد ترجم إلیھا 160 كتابا بینھم اثنان لمحفوظ قبل فوزه بنوبل، و867 بینھم 59 له بعد فوزه بھا.
تشیر ھذه الأرقام أن المساحة التي يشغلھا نجیب محفوظ والأدب العربي في العالم تتسع باضطراد ولكن ھذا لا يعني أن نجیب محفوظ والأدب العربي قد صارا عالمیین، فالعالمیة لھا شروط أخرى تفصلھا نادين جورديمر- الجنوب أفريقیة الحائزة على نوبل عام 91في معرض حديثها عن التھمیش الذي يتعرض له محفوظ وشینوا أتشیبي وعاموس أوز، تقول : " على الرغم من مواھبھم الاستثنائیة، فالثلاثة من الرموز البارزة للأدب المعاصر في اللحظة الراھنة، وعلى الرغم من حصول محفوظ على نوبل، وعلى الرغم من أن أعمال أتشیبي تدرس في كل جامعات العالم، وعلى الرغم من أن أعمال عوز تقرأ بست وعشرين لغة مختلفة، فإن ھؤلاء الكتاب الثلاثة لا يتم تناول أعمالھم أبدا من قبل الباحثین في الأدب خارج قاعات الدرس وأطروحات التخرج، ونادرا ما يتم ذكرھم بین أھم الأدباء في العالم الیوم، فھم لم يلهموا كتابا آخرين ليشكلوا ظاھرة جمالية جديدة، والتي يبدو أنھا العلامة التي لا تقبل النقاش في الغرب على الشھرة والقیمة الأدبیة، وھي أن يكونوا موضع تقلید الكتاب الأصغر، ھكذا ظل حضورھم في أوروبا محصورا في كونھم ممثلین لذلك العالم الذي يقع خارجھا". العالمیة إذن لیست أن نشغل المساحة المخصصة لنا في العالم.
وماذا عن رؤيتك للمطروح من توصيف للخطاب السردى أو الأدبي اليوم في العالم سواء شرقي عربي أو افريقى أو حتى شرق أو سطي وتحديدا فيما يخص مفاهيم الغرائبية في الكتابة بما هو مرتبط بالجذر الثقافي للشعوب حيث تتكون الهوية ويتدعم الخطاب عبر البناء أو الطرح اللغوي؟..
بوصفنا "الغرائبي" جغرافیا وعرقیا وثقافیا، العالمیة ھي أن نوسِّع مساحة العالم، وبقدر ما نزحزح حدوده الجمالیة نكتسب وجودنا الأصیل فیه، لا نكون ضیوفا على الآخرين فیما ابتكروه ولكننا نفتح بابا جديدا للوعي بالذات والعالم، لیس انتشار الأدب العربي دلیلا على عالمیته، بوصفه خالقًا للعالم، الأدب العربي معولم لأن انتشاره خاضع بشكل أساسي لقواعد السوق والاستھلاك السريع، ولیس في كلامي ھذا أي مبالغة فلحظة المد الثانیة في انتشار الأدب العربي في الغرب كانت الحادي عشر من سبتمبر ولم يكن بطلھا ھذه المرة كاتبا وإنما إرھابیا ھو أسامة بن لادن، يتم استدعاء الأدب العربي لإشباع فضول لحظة " الحدث" الذي سرعان ما يفتر مع انشغال العالم بحدث في مكان آخر، ثم يعود الاھتمام مع عودة العالم العربي إلى صدارة نشرات الأخبار إلیه مع حدث مثل الربیع العربي، لنظل رھن الاستدعاء، لیتقزم الأدب العربي وكاتبوه من منتجین للمعنى وللمعرفة الجمالیة التي تدفع بالوعي الإنساني نحو قیم الخیر والحرية والعدالة إلى مجرد شاھد عیان على واقع غرائبي يتبرأ منه، لقد رأيت بنفسي أسماء كبیرة وصغیرة في عالم الكتابة تتطوع للقیام بدور المحلل السیاسي والاجتماعي والنفسي لمجتمعاتھم الموبوءة بالدكتاتورية والتخلف الاجتماعي والتدني الإنساني، وعلى الرغم من أنھم قلة محدودة إلا أنھم احترفوا التجوال في أوروبا التي تحولت بالنسبة لھم من أفق جمالي يتحاورن ويتفاعلون معه لإنجاز طرحھم الجمالي إلى جمھور علینا الانتباه إلى حاجته للتسلیة بغرائبتنا السیاسیة حیث الكتابة عن عوالم الدكتاتورية، أو الحريم، أو المثلیة الجنسیة، أو غیرھا مما يشیع الاھتمام به في وسائل الإعلام الغربیة. يكفي أن نلقي نظرة على أغفلة الكتب والفقرة التي تقدم بھا دار النشر الكتاب على ظھر الغلاف، كما أشارت إلیزا فیريرو في ورقة ألقتھا في مؤتمر الرواية 2015 ، لندرك طبیعة السلعة التي يتم الترويج لھا.
_ وماذا إذاً في جعبتك أو حصيلتك المعرفية عن الصراع في الخطابات الموصلة للغات والثقافات وتحديدا عبر صراعات الهوية والجذور، وهذا قبل جماليات العوالم السردية والشعرية أو حتى الفكرية في الخطاب الإبداعي وخصوصية الحضارات ؟
إن ھذه الظاھرة بالطبع جزء من التوجه العولمي لتسلیع الأدب في كل مكان، والذي يتجلى في ظواھر مثل الأكثر مبیعا التي تتسق مع مجتمع ما بعد الحقیقة، المجتمع الأفقي، حیث احتل الانتشار المكانة التي كانت محفوظة لوقت طويل للعمق في سلم القیم والمعايیر، وعلى حین يوفر الجھد الأكاديمي والتنظیر الجمالي نوعا من التوازن في السیاقات الأخرى بین العمق والانتشار فإننا في حالة الأدب العربي نفتقد لھذا التوازن حیث دأب النقد العربي على اجترار المقولات النظرية للآخر دون إضافة حقیقیة لھا، كما دأب الأكاديمیون الغربیون على إھمال ماھو جمالي في الأدب العربي، والتركیز علیه كمادة للبحث الأنثروبولوجي، يكفي أن نلقي نظرة سريعة على أطروحات الماجستير والدكتوراة في أرشیف أي وزارة للتعلیم العالي في أوروبا لندرك ذلك، فنجد من يتحدث عن إرھاصات الربیع العربي في أعمال محفوظ، الحرية والثورة في رواية الكرنك، الجريمة في روايات نجیب محفوظ، وھي كلھا دراسات تبحث في الأدب عن أي شيء إلا ما يجعله أدبا.
_ وماذا عن موقفك أو رؤيتك الطازجة دوما فيما يخص علاقتنا بالحداثة في الفكر ونحن الملازمين دوما للهامش وتحديدا بين فكي رحى الحداثة ومابعد الحداثة هل نحن بكل ما قدمته ثقافاتنا لم نزل في الهامش؟
ھكذا نرى الیوم أن المساحة التي غزاھا الأدب العربي بعد نوبل محفوظ في الفضاء العام أصبحت رھینة ما يقع من أحداث ساخنة، أما المساحة التي غزاھا في الجامعة فلم تعد تھتم به كأدب ولكن كمادة للبحث في سیاق علوم أخرى، وأما الرھان الذي يعلقه الكثیرون على ثقافة ما بعد الحداثة، المعادية للمركزية والرافضة للتھمیش، في صناعة ھذا التوازن فإنه لا يبشر بالكثیر، فالسعي ما بعد الحداثي للخروج من الھامش لا يتوقف عند تدمیر المركز المسیطر وإنما يمتد لتدمیر أي إمكانیة لظھور مركز جديد، الغیاب التام للمركز ھو الضمانة الوحیدة لعدم العودة للھامش. نحن نبالغ كثیرا في الحماس لمابعد الحداثیة عندما نعتقد أنھا ستحرر العالم من المركزية الأوروبیة وتضفي المشروعیة على "جمالیات" الثقافات المغايرة لھا، حیث يمضي واقع ممارساتھا الثقافیة في الاتجاه المعاكس، فعدم السماح بظھور مركز جديد يرسخ في النھاية المركز القائم الذي يستمر في ممارسة سلطته غیر المباشرة في ترسیخ صورة نمطیة لما ھو خارجه، فمازال نجاح الأدب العربي في المجتمعات مابعد الحداثیة مرھونا بقدر ما يحتويه مضمونه من غرائبیة ثقافیة أو اجتماعیة.
_ وهل لما طرحه الخطاب الأدبي والإبداعي العربي عبر السرديات الكبرى في الشعر والرواية وتحديدا في ألف ليلة وغيرها من الموروثات الثقافية العربية دورا في تحجيم دورنا الفكرى والبنى الجمالية في ما قدم من كتابات وخاصة مااصطلح على تسميتها بالتراثية حيث حكم الغرب علينا بالوضع في خانة " الغرائبية العربية والسحر القادم من الشرق؟
عادة ما يقدم الابداع نفسه بوصفه تجلیًا لوعي مؤرق بأسئلة الجمالي في إطار اشتباكه مع الواقعي، وعي متمرد على كل الثوابت التي يمكن أن تحد من حريته في اكتشاف آفاق الذات وعالمھا، وعي ثائر على كل الحكايات الأيديولوجیة الكبرى التي يمكن أن تعرقل قدرته على الاستجابة لعالم يتغیر بسرعة فائقة، ويخلق شروطا فیزيائیة واقتصادية واجتماعیة وسیاسیة تفرض علینا يومیا أن نعید اكتشاف الإنسان والإنسانیة؛ ھل يجد ھذا الإبداع وھذا الوعي مساحة كافیة في إطار التلقي الغربي، أم أنه سیتعرض دائما للإقصاء كلما حاول التمرد على إطار الغرائبیة التي يتم صبه في قالبھا. ويضيف الباحث والدكتور الناقد وائب فاروق،
إن الانتشار الذي يعتقد الكثیرون أنه خروج من الھامش وانفتاح على العالم لیس إلا المظھر الأكبر – في إطار ھذه الشروط – للتھمیش.
منذ بداياتك وانت معني بتدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها كيف كان هذا وماهي الأسس التى وضعتها فيما يخص الآليات العلمية التى يجب الإلتزام والعمل بها في هذا المسار الحيوى؟
ليس إحجام الكثير من الحكومات العربية عن دعم تدريس اللغة العربية على أساسٍ علمي، ودعم انتشار الثقافة العربية إلى جمهور اللغات الأخرى، إلاّ نوعاً من الخطيئة التي تُقترف بحق لُغة عظيمة تختزن تاريخاً هائلاً، وينطق بها ما يربو على ثلاثمائة مليون من العرب، ويتعامل معها، كلغة للقرآن الكريم، أكثر من مليار وستمائة مليون إنسان على وجه البسيطة، الصين، وبرؤية بعيدة المدى، تُنفق سنوياً ملايين الدولارات من أجل دعم تدريس اللغة الصينية والتعريف بآدابها، ما وسّع من أُطر تأثير هذه الثقافة في العالم بأسره، في حين تعامل اللغة العربية وكأنها طفلٌ لقيط ليس له من يرعاه أو يهتمّ بشؤونه، ولعل هذا أحد الأسباب التي أدّت إلى ألاّ يتعامل النقد الغربي مع الكتابة العربية ليس كنصٍ جمالي، بل كتقرير أنثروبولوجي.
_ هل ترى ثمة عراقيل تحجب تجلي اللغة العربية عالميا حتى نستبشر بثمة إنصهار_ نسبي/ معرفي ورؤيوي نتماهي به مع صوت ما للثقافة والفنون والآداب العربية في نهج مخيلة وثقافة الآخر؟
اللغة العربية لم تُدرّس بشكل علمي على نطاق واسع حتى سبتمبر 2001 وما بعده، فعندما اتّخذت الإدارة الأمريكية القرار بغزو العراق احتاجت إلى تدريب ضباطها وتعليمهم اللغة العربية وبالتالي خصّصت هذه الادارة ملايين الدولارات لتطوير تدريس اللغة العربية، وهو ما أتاح لنا اليوم، وأخيراً، الحصول على منهج علمي لتدريس اللغة العربية. فعلى رُغم مرور قرون على تدريس اللغة العربية كلغة اجنبية للناطقين بغيرها منذ العصر الإسلامي الأول إلى اليوم، لم يكن هناك منهج علمي دقيق صارم لتدريس هذه اللغة. ولم يتحقّق هذا المنهج العلمي لتدريس هذه اللغة إلاّ في السنوات الثلاثين الأخيرة .
هل تقصد أن هناك ثمة تهافت وتقصير عربي في هذا الإطار المؤخر لثمة إنصهار أو تلاحم غربي/ عربي تدعمه وتزكيه آليات البنى السردية وتطويير آليات الثقافة؟
بالطبع _ هذا الإهمال يشير الى قصر نظر عددٍ من الحكومات ورجال الأعمال وغيرهم في العالم العربي عندما يتغاضون عن دعم الثقافة العربية باعتبارها البوابة الكبرى للدخول عبرها الى المجتمعات الأخرى، فأنت عندما تُعلّم أبناء ثقافة أخرى وأبناء مجتمع آخر لغتك، فإنّ الكثير من هؤلاء يصبحون متضامنين معك ومع قضاياك، ويتبنّون بالضرورة مواقفك، وكثيرا ما يحدث هذا ”أمّا أن تترك تدريس لغتك لكارهيها ولأعدائها فأنت تربي اجيالاً جديدة من العداوة ومن إساءة الفهم لهذه الثقافة، فيتمّ التضيق عليك لأسباب ثقافية، وهذا هو ما يحدث للكثير من العرب والمسلمين الذين يعيشون الان في أوروبا، والذين لا يتمّ التعامل معهم كأصحاب دين مختلف، بل كعرقية مختلفة، كمجموعة إثنيّة، وهذا ما ينبغي دراسته وبحثه، فالمسلمون أقليّة دينيّة في أوروبا، لكن لا يتمّ التعامل مع المسلمين على أساس أنّهم أصحاب عقيدة، بل كأقليّة عرقيّة، فقد أصبحوا في نظر الغرب عرقاً جديداً، وصار البنغالي والباكستاني والإيراني والأفغاني والروسي والعربي، فريقاً واحداً، وكأنّ الجميع من عرق واحد، وأصبح الإسلام، كدين، علامة تُشير إلى جماعةٍ عرقية وليس أصحاب إيمان مختلف. ورُغم إنّ الفضاء الأوروبي يتّسع للتعددية في الأديان، فإنّ ما يحدث في هذا الصدد لا يتطابق مع واقع الاختلافات الثقافية والإثنية ما بين الأشخاص والجماعات البشريّة القادمة من أصقاع ومن تواريخ وثقافات مختلفة، ولعل هذا يحدُثُ أيضاً نتيجة التقصير في تدريس والثقافة اللغة العربية في الغرب“.
_ وماذا فعات أنت بحراكك الثقافي والمعرفي الشخصاني لدعم هذه الفضاءات؟
لعل هذا ما دفعني إلى تكريس ثلاث سنوات كاملة لوضع كتابًا أساسيًا لتدريس اللغة العربية وفق المناهج العلمية لتدريس اللغة للناطقين بغيرها، وأدعي أن قدمت طرحًا جديدًا في تدريس القراءة مستفيدًا من علم اللغة وعلم عروض الشعر العربي، وكذلك في تدريس النحو الذي تم تجريد قواعده إلى مجموعة من الرموز البصرية والمعادلات الرياضية، التي تستند إلى قراءات مسبقة لنصوص طويلة تحتشد ما يجب تدريسه من قواعد، حتى لا يكون فهم القاعدة على حساب الحساسية باللغة وخصائصها المتميزة. ومنذ صدر الكتاب وهو يلقى نجاحًا كبيرًا وتعاد طباعته كل عام.