مفكرون فى ندوة «الدستور »: خصوم يوليو يُصفّون حساباتهم معها حتى اليوم (1-3)
أدار الندوة: أ. وائل لطفي
حاضر في الندوة:
د. نبيل عبدالفتاح
د. جمال شقرة
د. محمد عفيفى
أعدها للنشر: إيهاب مصطفى - نعمات مدحت
عدسة: مصطفى سعيد - إسلام محمود
هناك «ثورة مضادة» ضد يوليو يقودها الإخوان وبعض من لا يفهمون الماضى جيدًا
المنبهرون بما قبل يوليو لا يرون الصورة كاملة ويعجبون بالقاهرة الأوروبية وليس بمصر الحقيقية
قوى إقليمية جندت إعلاميين لتصفية حساباتها مع الثورة وتغير الوضع العالمى ساعدهم
د. نبيل عبدالفتاح: يوليو لم تدرس بشكل موضوعى والانبهار بما قبلها دليل جهل
د. جمال شقرة: هناك ثورة مضادة ضد يوليو يقودها أعداء مصر القوية
د. محمد عفيفى: أنا ضد القطع التاريخى بين الثورات
طرحت «الدستور» سؤالها الأول فى الندوة حول ما بقى من ثورة ٢٣ يوليو، وما أبرز إنجازاتها على المستوى الاجتماعى، ولماذا نحتفل بـ«٧٠ عامًا على ثورة يوليو»؟
وقال الدكتور نبيل عبدالفتاح إن مرور ٧٠ عامًا على ثورة يوليو يؤكد أهمية ميراثها فى تأسيس النظام السياسى وتقاليده، وتحديدًا فى المرحلة الناصرية، وبالتالى نحن أمام حدث ليس احتفائيًا، بل نحن أمام حدث لا بد من مراجعته مراجعة نقدية كبرى، لأسباب كثيرة، منها أن الحقب الزمنية وتحولاتها، من «ناصر» إلى «السادات» و«مبارك» وما بعده، كلها اعتمدت على شرعية يوليو ٥٢، والهوى الأيديولوجى الذى حكم بناء الدولة، رغم بعض التغييرات فى مرحلتى «السادات» و«مبارك».
وأضاف: «النقطة الأخرى فى تقديرى هى أهمية الخروج من عباءة التاريخ الرسمى، وما انطوى عليه من بعض التحيزات وعدم الموضوعية فى مسألة التاريخ المدرسى، وأهمية الدراسة النقدية والموضوعية فى نفس الوقت ترجع لبروز تيار جارف على مواقع التواصل الاجتماعى يتمثل فى خطاب الانفعالات والتفضيلات الذاتية، من القوى الاجتماعية أو الطبقة الجديدة من رجال الأعمال، ونزوعها إلى ترويج آرائها الذاتية اللا تاريخية واللا موضوعية فى تقييمها ليوليو ونظامها، خاصة المرحلة الناصرية، من خلال التشويه والأكاذيب والكلام المرسل، الذى لا يعتمد على دراسات علمية وتاريخية مدققة فى مختلف المجالات والسياسات التى انتهجتها يوليو فى هذه المرحلة».
وواصل: «أيضًا هناك ثقل فى الخطاب المعادى ليوليو، من بعض القوى الإقليمية، التى تحمل كراهية عمياء لدور يوليو فى حركة التحرر الوطنى العربية، والعالم الثالث فى مرحلة ناصر، وهو خطاب روجوه من خلال أجهزة الإعلام المختلفة، وهو خطاب الموالين لهم فى مصر وأيضًا فى المنطقة العربية».
وأكمل: «مما يؤثر على بعض الصور السلبية التى تعطى لهذه المرحلة وعدم الدراسة الموضوعية هو التحول فى النظام الدولى من نظام الثنائية القطبية إلى نظام القطب الواحد، وأدى ذلك إلى تغييرات أيديولوجية كبيرة، أكدتها نظرات جهاز الدولة الأيديولوجى فى عهدى السادات ومبارك أيضًا».
وشدد على أنه «من هنا تبدو الأهمية التاريخية والسوسيوسياسية ليوليو ٥٢، بعيدًا عن النظرات المتحيزة وثقافة السوشيال ميديا الزائفة وأكاذيبها، وموروث المرحلتين الساداتية والمباركية، ونظرات الإخوان والسلفيين لحدث يوليو الكبير».
وخلص إلى أن «المقاربة لتناول ٧٠ عامًا على يوليو لا بد أن تستصحب العديد من الأبعاد والمداخل والمناهج فى تكامل، أولها وضع الحدث فى سياقاته الداخلية والإقليمية والدولية، وليس إسقاط الرؤى الراهنة فى ظل تحولات النظام الدولى أو النظام الكونى الآن، وانهيار نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، لأن تحليل النظم السياسية، ومنها نظام يوليو، يعتمد على السياقات والهياكل والتحولات وطبيعة السلطة الحاكمة وتركيبة الطبقات الاجتماعية السائدة، والسؤال لفهم يوليو أولًا: لماذا انهار النظام شبه الليبرالى فى مصر؟».
وأجاب: «أولًا أسباب ذلك كانت واضحة، فهناك اختلالات اجتماعية وسياسية للنظام البرلمانى شبه الليبرالى منذ دستور ٢٣ لانقلاب دستور ٣٠، وأيضًا الفترة التى حكم فيها حزب الوفد، وهو حزب الحركة الوطنية المصرية، كانت فترة محدودة جدًا لا تتجاوز ٧ سنوات، وبالتالى النظام منذ تأسيسه فى دستور ٢٣، فى حقيقة الأمر، كانت تهيمن عليه طبقة كبار الباشوات، وهم كبار الملاك والطبقة شبه الرأسمالية، التى كانت لديها كل الممكنات الحقيقية فى الواقع الموضوعى».
بالإضافة إلى أنه فى أربعينيات القرن الماضى كانت قد بدأت- ما يمكن أن نطلق عليه- طبقة «الأفندية» وبعض الفئات الوسطى من الأقباط ومن المسلمين تتراجع عن حزب «الوفد»، وجزء من الطبقة الوسطى من الأقباط دخل نظام الرهبنة، وبعضهم حاول تشكيل أحزاب طائفية.
وبالتالى كل المؤشرات كانت تشير إلى أن النظام «شبه الليبرالى» لم يستطع سوى تشكيل طبقة سياسية، شبه محترفة، تدافع عن مصالحها وعن الاستقلال الوطنى وعن الدستور، لكنها ظلت طبقة مرتبطة بالمدن أساسًا وبعض كبار الملاك فى المحافظات والأرياف، وهذا عكس خللًا هيكليًا فى النظام الاجتماعى، وعجزًا فى قدرة النظام على التطور والإصلاح، وفق «عبدالفتاح».
وشرح: «بالتالى هناك نقطة مهمة جدًا، وهى أن خطاب المديح لمرحلة ما قبل يوليو فى الحقيقة هو خطاب أيديولوجى، يركز على صور ذهنية تخلط بين الصور حول ثقافة المدن الكوزموبوليتانية، وهى مدن القاهرة والإسكندرية والمنصورة، ونسيان تهميش الريف والصعيد، هذه نقطة».
النقطة الثانية هى أنه يخلط بين خطاب وأداء الليبرالية المصرية، الذى لا يزال مؤثرًا لدى بعض المثقفين ولدى كبار رجال الأعمال من الطبقة الصاعدة المجهول نسبها الاجتماعى، التى صعدت فى ظل فساد فى النظام الهيكلى المصرى فى فترة «السادات» و«مبارك»، وبالتالى هذه الصور المرجعية مع بعض صور حريات الرأى والتعبير، التى كانت سائدة قبل ٥٢، هى التى تصنع هذه الصورة الذهبية وغير الموضوعية عن النظام الاجتماعى والسياسى شبه الليبرالى قبل ٥٢.
ورأى أن هناك أيضًا ما يسميه «ولع لغوى» فى استخدام المجازات السياسية المفرطة فى وصف الأمور، على سبيل المثال: الدكتور محمد عفيفى، والدكتور جمال شقرة، يعتبران أن ما حدث فى ١٩١٩ ثورة، بينما أنا أعتبرها حركة جماهيرية واسعة النطاق، لأنه فى نفس الوقت ظل الاحتلال البريطانى قائمًا فى البلاد ولم تؤدِ إلى تغيير.
وأضاف: «هذا جزء من التشويش الذى حصل على يوليو ٥٢، وهو استخدام المجازات السياسية المفرطة فى وصف ما قبل ٥٢، وعدم تبيان موضوعى لاختلالات النظام على الصعيدين السياسى والاجتماعى، والجزء الثقافى، حتى فى تحليلات كبار مؤرخى الأدب فى مصر، لا يزال ينطوى على اعتلالات كبيرة، حتى فى النظر لكبار المفكرين المصريين، على سبيل المثال طه حسين، وهو ليس مرحلة واحدة».
وعن ثورة يوليو، قال نبيل عبدالفتاح: «النظام الجديد لحركة ضباط يوليو كان تعبيرًا عن التغير فى النظام الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، ونشأة القطبية الثنائية ومبادئ الرئيس ويلسون، وسياسة روزفلت، وصعود الولايات المتحدة على قمة النظم الليبرالية الغربية، وسعيها للحلول محل الكولونيالية البريطانية والفرنسية».
وأضاف: «تغير الوضع العالمى والدولى بعد الحرب العالمية الثانية لعب دورًا كبيرًا جدًا، وأدى إلى العديد من النظم والسياسات التى كانت موضعًا للانتقادات العنيفة، مثل سياسة التأميم».
وبدأ الدكتور جمال شقرة حديثه بالتعبير عن رأيه بأن الهجوم على ثورة يوليو يؤدى إلى تشويش غير عادى، فيما يبدو أنه «مخطط»، ويمكن أن يُطلق عليه «الردة» أو «الثورة المضادة».
وأضاف «شقرة»: «أريد أن أقول إن أحد الدروس التى يجب أن نفهمها أن الثورة عملية، تغيير جذرى لمجتمع من المجتمعات، يمكن أن تكون هناك تظاهرات أو حركات احتجاج، لكن أن يتغير شكل المجتمع فنحن هنا إزاء ثورة مكتملة، ودوافع للثورة المكتملة».
وواصل: «هذا قانون معروف، هو ما حرك الثورة الفرنسية والثورة البلشفية، وهو ما حرك كل الثورات، وسيحرك كل الثورات، حتى لو رجعنا ٤٥٠٠ سنة للوراء، للثورة الأولى فى تاريخ مصر، وهى الثورة ضد بيبى الثانى، التى تحركت لنفس الأسباب التى تحرك من أجلها الضباط الأحرار، وهى نفس الأسباب التى تحركت بها كل الثورات».
وشرح: «هى مجموعة الأزمات التى تؤدى لانفجار الثورة، وتجمعت فى العشر سنوات الأخيرة من حكم فاروق»، محذرًا من «شىء خطير»، وهو وجود محاولات رهيبة لتجميل وجه الملك فاروق.
وأضاف: «الحقيقة أن هذا شىء مؤذٍ جدًا، ويقف وراءه من أطلقتُ عليهم (قوى الثورة المضادة)، الذين أدينوا من ثورة ٢٣ يوليو. هؤلاء الآن من يلعبون لعبة التسفيه من إنجازات يوليو، مع أنهم يعيشون فى شرعيتها ويجملون وجه النظام شبه الليبرالى ما قبل ٥٣، أو الفترة بعد حادث فبراير ٤٢، وحتى لو ذهبنا لثورة ١٩ وهى غير مكتملة، كان الحلم الأساسى للشعب هو الحرية والاستقلال».
وأكمل: «كانت هناك سلطة احتلال منذ عام ١٨٨٢، وبالتالى حين تسأل أى أحد، يريد الحرية والاستقلال، وكل القوى السياسية وبعض القوى الاجتماعية.. ستجد الكل هدفه طرد المستعمر البريطانى».
وأوضح أنه «أولًا قُدمت فكرة القضاء على الاستعمار عن أى أفكار أخرى كانت تظهر متوارية، فالفكرة الأساسية أن هناك نظامًا فاشلًا، لذلك حين نأخذ العوامل الرئيسية، ستجد فسادًا إداريًا وسياسيًا ليس فيه فصال، وحين نقول إن هناك فسادًا سياسيًا للملك، وفسادًا للأحزاب، من يدافع هنا ليس واقفًا على أرض صلبة، ولا يقف على أى حقائق تاريخية».
وبيّن أنه «لو أخذت الأحزاب السياسية فيما بعد ٣٦، حتى فيما يتعلق بحزبى الوفد والأمة، ستجد أن هذا الحزب غزته طبقة كبار ملاك الأراضى الزراعية.. الحزب الذى كنا نقول عليه: (لو رشح حجرًا لانتخبناه) وسميناه حزب الأمة، أصبح يتراجع».
وأضاف: «هناك فكرة مهمة جدًا جدًا، الذين خرجوا من حزب الوفد بعد ٣٦، إلى أين ذهبوا؟ هى مأساة تحتاج لدراسة علمية، ستجد أن معظمهم ذهب إلى جماعة الإخوان، وهذا استنتاج من خلال قراءات كثيرة».
وتابع: «أنت هنا لديك أزمة سياسية، أحزاب فاشلة وتستحق الوصف الذى وصفه (عبدالناصر) بها، ولا يوجد هناك حزب أخرج جماهيره فى مواجهة الضباط، إذا جاز استخدام التعبير».
وقال «شقرة»: إن «عبدالناصر» رمى لهم الطُعم الشهير «طهر نفسك»، وبالمثل العامى حين تقول لأحدهم: «طهر نفسك» فسيستحم، أى أنه يدرك أنه ليس طاهرًا، وأنا هنا أستخدم بعض الأوراق التى رأيتها فى أرشيف منشية البكرى.
وأضاف: «اللعبة الثلاثية التى لعبها مع الأحزاب مثل لعبة الشطرنج، ولو أن هذه الأحزاب قوية لما أمكن هزيمتها، لو أن النحاس باشا كان قويًا لما انهزم أمام الضباط الشبان، لكن الذى حدث أنها أحزاب كان يرتع فيها الفساد حتى النخاع».
وواصل: «أنا درست الوثائق فى الفترة التى قيل فيها (قل لهم يا نجيب طهروا أنفسكم)، فوجدت أن هناك صراعات فى الكوادر التى تحت كل حزب، رهيبة جدًا، قال لهم: (أنتم لم تطهروا أنفسكم فقل لهم يا نجيب)، فالصراعات وصلت للنحاس وتم التشويش على تاريخه وزوجته والتشويش من الحزب نفسه».
وأكمل: «لذلك الخطة كانت تنظيم الأحزاب لنفسها بعد الثورة، وحين نظموا أنفسهم، تستطيع أن تحكم على البرامج التى قُدمت، البرامج كلها تقدمية أكثر من أى برنامج لحزب شيوعى، وأنا درست هذه البرامج التى قدمت فى هذه الفترة، وهى برامج متقدمة جدًا، الكل يتحدث عن أفكار تقدمية وأفكار جديدة، وطبعًا هذا كان محاولة مجاراة لفكرة أن الجيش يطهر نفسه، وأنتم أيضًا طهروا أنفسكم»، مستطردًا: «بعدها تم حل الأحزاب».
ورأى أستاذ التاريخ أنه «من هنا فإن فساد الطبقة السياسية كان واضحًا، وما يقال الآن يكشف عن مرضين وليس مرضًا واحدًا، المرض الأول هو الحنين للماضى، وللأسف الشديد يأتى من الشباب الذين لا يملكون وعيًا، فمثلًا يتساءلون عن بِكَم كانت البيضة والفرخة وأسعار اللحوم، وكيف كنا نقرض دول العالم والدول العربية التى كانت تتسول منا؟»، متابعًا: «هذه سياقات ليست علمية».
وشرح: «لو استخدمنا مصطلح فشل، فأنت ستقول: كم مرة فشل الملك فاروق ونظامه بموضوعية حين أراد هذا النظام تحقيق الحرية والاستقلال للشعب المصرى بالمفاوضات؟... فشل.. ولدينا حقائق تاريخية تبين أن كل المفاوضات فشلت، وحين أراد بالتحكيم أن يحل الأمر فشل نتيجة للصراعات الداخلية، وحين ترك القضية الوطنية وذهب للأزمة الاقتصادية فشل أيضًا، وتم وصفنا فى الدوريات العالمية بالجهل والفقر والمرض والشعب الحافى والوضع الميئوس منه فى مصر».
وأتم: «حين تراجع المقالات للنخبة الوطنية المثقفة أيًا كانت أيديولوجيتها، وهذه تم جمعها فى كتاب طُرح تحت عنوان (كيف أعددنا النفوس للثورة)، ستجد أن هذه المقالات لم تجترئ على الملك وأسرة الملك فقط، لكنها أوضحت فسادًا رهيبًا فى العشر سنوات الأخيرة لحكم الملك فاروق».